كيف يمكن أن نحلل هذا الإقبال الضعيف على الانتخابات رغم مقدماتها كانت بالفعل تختلف عن الانتخابات السابقة بشكل كلي؟ ولماذا لم يشترك أكثرية الناخبين فيها ويدلوا بأصواتهم من أجل التغيير؟ ولماذا إذن عجلنا بالانتخابات؟ ولماذا غيرنا القوانين والأنظمة؟ ولماذا ضحينا بالمئات من شبابنا في فورة ثورية لم يشهدها العراق...
أجريت الانتخابات البرلمانية العراقية في موعدها المقرر في العاشر من شهر تشرين الأول، ولعل من أهم ما يميز هذه الانتخابات عن سابقاتها أنها أجريت في أجواء هادئة جدا، ولم تشهد عمليات تزوير، ولم تسجل مخالفات كثيرة وجسمية، ومستوى الحماية الأمنية كان ممتازا، وإعلان النتائج سيكون في خلال 24 ساعة.
مضافا إلى قلة النفقات المالية المصروفة، واقتصار الحملات الانتخابية على دوائر المرشحين حصرا وفقا لقانون الانتخابات الجديد الذي جعل المحافظة الواحدة عدة دوائر بدلا من دائرة واحدة، أو أن العراق بأكمله دائرة واحدة كما كان سابقا. وتعد هذه الانتخابات أول انتخابات لم يرشح فيها رئيس الوزراء نفسه.
ورغم أن هذه الانتخابات كانت انتخابات مبكرة فرضتها أحداث التظاهرات المطالبة بالتغيير والإصلاح، والتي استمرت أشهر، والتي راح ضحيتها مئات من المواطنين المتظاهرين والقوات الأمنية، والتي دفعت حكومة السيد عادل عبد المهدي إلى تقديم استقالتها، وتأليف حكومة السيد مصطفى الكاظمي، والتي كانت من أولوياتها إجراء الانتخابات المبكرة.
ورغم تغيير قوانين الانتخابات ومجلس إدارة مفوضية الانتخابات، ورغم مشاركة مجموعة واسعة من الشباب (شباب ثورة تشرين) في الانتخابات إما بعنوان كتلة تمثل هذا الحراك الثوري وإما بعنوان مستقلين. ورغم التأكيدات التي أعطتها الحكومة العراقية للمواطنين العراقيين على استكمال الإجراءات القانونية والفنية والأمنية بما يمنع عمليات التلاعب والتزوير والانحياز المذهبي والاثني فيها.
ورغم مشاركة واسعة للمنظمات الأممية والدولية والإقليمية والعربية والمحلية في هذه الانتخابات كمراقبين ومتابعين لمجريات الانتخابات وسيرها. ورغم الدعوات والنداءات التي وجهها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وزعماء التيارات السياسية والمرجعيات الدينية والمجتمعية والعشائرية، ورغم ذلك كله فان الصدمة الكبرى في هذه الانتخابات هي أن نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات كانت بنحو 41% بحسب مفوضية الانتخابات أو 20% بحسب بعض المراقبين والمحللين السياسيين، وبحسب بعض المراقبين في المراكز الانتخابية فان نسبة المشاركة في كل محطة لم تتجاوز ربع أعداد الناخبين المسجلين.
وهذه المشاركة المتدنية في الانتخابات في جميع المحافظات تقريبا كانت خلاف التوقعات التي تشير أن نحو 70% من الناخبين المسجلين سيشتركون في الانتخابات لأسباب منها أنها جاءت بناء على تظاهرات عارمة عمت غالبية محافظات الجنوب والوسط ومنها العاصمة بغداد، وأن هناك مشاركة جديدة لكتل سياسية ووجوه شابة جديدة، وأن الأنظمة الانتخابية قد تغيرت، وأن هناك دعوات صدرت عن زعماء دنيين ومجتمعيين كلها تحث على المشاركة في الانتخابات لاسيما مقلديهم واتباعهم.
السؤال هنا كيف يمكن أن نحلل هذا الإقبال الضعيف على الانتخابات رغم مقدماتها كانت بالفعل تختلف عن الانتخابات السابقة بشكل كلي تقريبا؟ ولماذا لم يشترك أكثرية الناخبين فيها ويدلوا بأصواتهم من أجل التغيير المنشود؟ ولماذا إذن عجلنا بالانتخابات؟ ولماذا غيرنا القوانين والأنظمة؟ ولماذا ضحينا بالمئات من شبابنا في فورة ثورية لم يشهدها العراق قط؟ ولماذا لم يستمع الناخبون إلى دعوات المرجعيات الدينية والمجتمعية والسياسية؟
هناك أكثر من تحليل وأكثر من رؤية في تفسير أسباب عزوف العراقيين عن الانتخابات الحالية، ولعل من أهمها:
1. الانتخابات لن تقدم خدمات جديدة للناس: إنما تجري الانتخابات من اجل تحقيق حاجات المواطنين وتوفير الخدمات العامة لهم، إلا أن تجارب الانتخابات السابقة كانت حاضرة في ذهن العراقيين جميعا، فرغم الوعود الكثيرة التي طرحتها الكتل السياسية للشعب العراقي من أجل توفير الخدمات وإجراء الإصلاحات فان النتائج كانت مخيبة للآمال. وتتكرر هذه الوعود، وتتكرر النتائج السلبية في كل انتخابات برلمانية.
2. الانتخابات مصدر الفساد والثراء: يعتقد عدد غير قليل من الناس أن الانتخابات كانت سببا في الفساد المالي والثراء الفاحش الذي حصلت عليه الكتل البرلمانية والأحزاب السياسية والشخصيات. وأنهم ساهموا بطريقة وأخرى في تمكين هؤلاء الفاسدين من تحقيق أهدافهم ومصالحهم الذاتية.
3. نتائج الانتخابات معدة سلفا: رغم التأكيدات المتكررة من أن هذه الانتخابات ستكون مختلفة عن سابقاتها من حيث نتائجها إلا أن هناك راي جمعي عند أكثرية المواطنين أن النتائج معدة سلفا وأن أصواتهم لن يأخذ بها، وسيكون هناك تزوير للنتائج. وأن الأحزاب القديمة والوجوه القديمة ستعود للبرلمان مجددا.
4. التظاهرات كانت تعبر عن مصالح عدد قليل من الشباب: إن التظاهرات التي حصلت في 2020 لم تكن تعبر عن إرادة العراقيين أو غالبية العراقيين، بل هي كانت تعبر عن إرادة بعض الشباب في التغيير، وهؤلاء الشباب أو بعضهم كانوا مرتبطين بأجندة خارجية تديرها جهات أجنبية لاسيما الولايات المتحدة، وبعضهم كان طامحا في الحصول على مناصب تنفيذية. وهذا ما حصل بالفعل، ففي اليوم الأول الذي شكلت فيه حكومة السيد الكاظمي انضم إلى فريقه الاستشاري عدد غير قليل من قادة المتظاهرين، كما أن بعضهم شكل كتل سياسية وبعضهم دخل الانتخابات مستقلا. وفي كل الأحوال فان هؤلاء جميعا لم يكونوا يمثلوا غالبية العراقية وإلا لكانت النتيجة لمصلحة المتظاهرين وهو ما لم تظهره نتائج الانتخابات.
5. المواطنون العراقيون لا يثقون بأحد: هناك من يرى أن العراقيين لم يعدوا يثقون بأحد لا من السياسيين ولا من زعمائهم الدنيين، والنتيجة أن دعوات هؤلاء للناس للمشاركة في الانتخابات لم تكن مؤثرة، ولم يستجيب لها أحد.
6. غالبية العراقيين غير مسيسين: في العادة تحصل المشاركة في الانتخابات من الناخبين المسيسين المنتمين أو المرتبطين أو المحبين للمرشح أو لحزب أو لزعيم سياسي، وعليه فان كان عدد الناخبين المسيسين أكثر من غير المسيسين فان المشاركة ستكون أكبر والعكس صحيح. وواضح أن العراقيين في الغالب غير مسيسين بمعنى غير منتمين لحزب سياسي أو تكتل سياسي، وأن الذين انتخبوا إنما انتخبوا لأنهم ينتمون إلى جهة ما أو يحبون زعيم ما، هو دعائهم للانتخابات.
7. الانتخابات النيابية لا تقدم خدمة مباشرة للناس: لا يتفاعل الناس في العادة إلا مع الانتخابات التي تكون السلطة التنفيذية (حكومة) لأنها هي دون غيرها من تملك صلاحيات كثيرة منها الخدمات والتعينات وإصدار القرارات والإعفاءات وغيرها، وأما السلطة التشريعية (مجلس النواب) فيقتصر دوره على إصدار القوانين ومراقبة التنفيذ، وهي مهمات لم ينجح بها مجلس النواب كما يريد الناس.
8. ضعف الثقافة الانتخابية: لعل من المؤشرات العامة أيضا أن مؤسسات الدولة التربوية والإعلامية لم تبذل المزيد من الجهود من أجل إشاعة الثقافة الانتخابية، التي من شأنها أن تكون حافزا نحو المشاركة بالانتخابات، بل إن الكثير من وسائل الإعلام كانت تشكك في نزاهة الانتخابات وفي قدرة الحكومة على تأمين متطلباتها الفنية والمالية. وفي تثبيط الناس في الذهاب إلى مراكز الاقتراع.
اضف تعليق