مشاريع التغيير التي تحدث عنها العلماء والمفكرون طيلة قرن من الزمن ترمي الى بناء هيكلية عامة للأمة في حاضرها ومستقبلها، وفق نظرية الهدم والبناء، وهي مسألة يتفق كل دعاتها على حاجتها الأكيدة لفترات زمنية طويلة، ومن حاول التسرّع لم يجنِ سوى الحروب الأهلية، وتمزق المجتمع...
"إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
رسول الله، محمد، صلى الله عليه وآله
بقدر ما يكون التغيير مطلوب "نظرياً" من قبل الشريحة المثقفة، فانه مثير للهواجس والمخاوف من شرائح المجتمع كافة لأنها ببساطة؛ تدعو الى تحوّل من حال الى آخر، فهي تلغي مظاهر، وعادات، وتقاليد، تعايش الناس عليها منذ زمن، رغم خطئها في كثير من الاحيان، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات في ظل النظام العشائري، وحتى النظام الديكتاتوري "المنضبط"، وايضاً التي تحكمها قيم المادة، ونظرية المنفعة. كل هذا يشكل نمطاً وطريقة للحياة يعتاد عليها الناس، وربما وجدوه في مراحل زمنية أنه الأسلم والأنفع بين أيديهم من غيره.
وهذا ما يفسّر لنا سبب اصطدام الأقوام البشرية على طول التاريخ مع الانبياء والمرسلين من قبل السماء، فقد كانوا يبشرون بالحياة الطيبة والخلاص من ظلم الطغاة، والتحرر، والكرامة مقابل شيء واحد؛ توحيد الله، بيد أن الجواب لم يكن سوى التكذيب والتشكيك، والقمع، رغم ما يرونه من أدلة وبراهين قاطعة على صدق مدعاهم بمعاجز باهرة مثل؛ اخراج الناقة من الجبل، او انفلاق البحر نصفين، وغيرها كثير، بل وكان مصير معظم الانبياء والمرسلين؛ القتل بأبشع الصور على يد طغاة عصرهم، وعلى مرأى ومسمع من الناس، وشعارهم: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، (سورة البقرة، الآية: 170).
النقلة النوعية الحاصلة في الأسلوب تجسدت في بأروع ما شهدته البشرية، في الرسالة الخاتمة التي جاء بها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد ظهر في مجتمع موغل في الجاهلية والتخلف والظلم والفساد، ولكن كان يحمل بعض العادات والتقاليد والقوانين ذات الصبغة الايجابية، والضائعة في ظلام الجهل، فأوقد النبي شمعتها لتضيء وتتميز عن غيرها من السلوكيات والاعمال الخاطئة.
اضافة الى الكرم والشجاعة، كانت العرب تعرف إغاثة الملهوف، وأداء التحية والسلام، فكانت الخطوة الذكية للنبي الأكرم؛ التجديد في كل طرائق وأنماط العيش في المجتمع الجاهلي في مكة، ثم في المدينة، فحقق التغيير العام فيما بعد –ولو بنسبة معينة- و قدم مجتمعاً متحضراً، ثقافته التسامح والتعاون والتكافل والتآخي، بعد أن كانوا "شعارهم السيف ودثارهم الخوف"، وهذا ما لفت اليه كبار المفكرين والعلماء في الغرب لأن يَعِدوا النبي محمد أعظم شخصية عرفتها البشرية لهذه الخصوصية تحديداً.
وهذا ليس بالأمر السهل والهيّن، فهو يحتاج الى قلب انسان يقول: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، كما يحتاج الى نكون كما دعانا القرآن الكريم: {ولكم في رسول الله أسوة حسنة}، فاذا كانت فترة ثلاثة وعشرين سنة التي استغرقت التغيير العام للسلوك والاخلاق قبل اربعة عشر قرناً، والتي أبهرت العالم؛ فانها اليوم ربما تحتاج الى سنوات طوال، بحكم تطور الظروف الموضوعية، وايضاً تطور الانسان في طريقة تفكيره ووسائل عيشه، ليكون التغيير حقيقي وبناء وليس كما نشهده في بلادنا، حيث يكون التغيير من نظام ديكتاتوري عسكري، الى نظام ديمقراطي تعددي خلال أيام، او ربما أشهر في أحسن الفروض، فيجد الناس أن عليهم التحول في طريقة عيشهم من نظام صارم –كما هو مثال صدام في العراق- الى نظام يتيح لهم فعل كل شيء تحت شعار "الحرية"، وهم يجهلون ما الذي يمكن فعله أساساً!
ولهذا السبب تحديداً نجد دعاة السياسة –أو من يدعون أنهم سياسيون- لا يبرحون يتحدثون عن "التغيير" على أنه خشبة الخلاص من الأزمات، ومن الظواهر السلبية مثل الفساد والفوضى، كما لو أن الناس فاقدين لأي نمط او طريقة للعيش قابلة للتطوير والتحديث، فهم في عجلة من أمرهم، لان التسابق المحموم على المناصب وقمم السلطة تحجب عنهم مساحات قابلة للتجديد في الفكر والسلوك لدى المجتمع من المفترض تحمل مسؤوليتها.
بالامكان تسليط الضوء على خاصيتين تفضّل التجديد على التغيير في اللحظة الراهنة مع النسبة الاكبر للنجاح؛ الاولى: تتعلق بواقع الانسان (الفرد)، والثانية: تتعلق بالمستقبل.
الإنسان مُحب للتجديد
مهما اعتاد الانسان على نمط حياة معينة، او نمط للتفكير، فانه ينجذب الى التجديد، لاسيما اذا وجد فيه الأحسن له ولعائلته، وهذا يصدق على الشاب والشابة، والرجل والمرأة، والعالم والتاجر في جميع نواحي الحياة.
فمن يجد في ثرائه دافعاً للتبذير على المطاعم والرحلات السياحية المُكلفة الى البلاد البعيدة، وإقامة الولائم والحفلات واقتناء السيارات الفارهة والملبس الفاخر، يمكن أن يجد في هذا الثراء دافعاً للانفاق على الايتام وذوي الاحتياجات الخاصة والمعسرين عند صالات العمليات الجراحية المعقدة والمكلفة، فالمال هو نفسه مال، والانفاق هو نفسه لم يتغير، إنما الذي تغير وتجدد الطريق نحو الانفاق، عمل واحد من هذا القبيل من شأنه تجديد حياة صاحبه وإخراجه من حالة الرتابة والضغط النفسي بسبب هموم العمل والجري خلف هذا المشروع او ذاك، الى واحة الطمأنينة والرضى النفسي والشعور بالأُنس من سائر افراد المجتمع، وهي حالة نفسية مجربة لمن يبسط موائد الإفطار في شهر رمضان، او يفتح داره للزائرين في ايام شهري محرم وصفر، او يشارك في مشاريع خيرية مختلفة.
ونفس الأمر ينطبق على صفة حبّ الإطلاع على الجديد، من خلال مطالعة الكتب فيما مضى من الزمن، واليوم تجددت طريقة النشر من الورقي الى الالكتروني، فيما بقيت طريقة التفكير والاختيار من بين سيل المعلومات والافكار دون تجديد او توجيه نحو مسار معين يخدم الفرد والمجتمع.
هذا النوع من التغيير هو الذي يتفاعل معه الانسان، وليس "التغيير الانقلابي" السريع على يد زمرة من العسكريين المنطلقين من المعسكرات على حين غفلة، او عناصر لحزب سياسي ينتشرون في مؤسسات الدولة ليحتلوا اماكنهم ويفرضوا على الناس واقعاً جديداً بين ليلة وضحاها، ثم يدعوهم للانصياع للتغيير الحاصل بالتغرير او بالترهيب، وهو النوع الذي أثبت فشله في بلادنا، فيما ثبت نجاح النوع الاول الذي نرى حجم التفاعل معه من شريحة الشباب في معظم –إن لم نقل جميعها- البلدان الاسلامية مع الافكار القادمة من وراء البحار على شكل كتب مترجمة، وايضاً برامج متلفزة، وأخرى على مواقع الكترونية، وهي تتحدث عن المهارات والقابليات والقدرات لدى الانسان، وكيف أنه قادر على التجديد في سلوكه وفكره، بل والتأثير على المحيطين به.
التجديد أرضية لضمان المستقبل
مشاريع التغيير التي تحدث عنها العلماء والمفكرون طيلة قرن من الزمن ترمي الى بناء هيكلية عامة للأمة في حاضرها ومستقبلها، وفق نظرية الهدم والبناء، وهي مسألة يتفق كل دعاتها على حاجتها الأكيدة لفترات زمنية طويلة، ومن حاول التسرّع لم يجنِ سوى الحروب الأهلية، وتمزق المجتمع، وفشل التجربة التغييرية والإصلاحية أمام التجربة الديكتاتورية، كما نلاحظ في حنين كثير من الشعوب اليها رغم مساوئها وجرائمها.
في كتابه: "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين" يبين المؤلف سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- وبشكل رائع خطوات التغيير الحقيقي الذي تشارك فيه الجماهير والقيادة معاً، ويتقدم الاثنان معاً نحو خلق واقع جديد أفضل وأرقى مما سبق، فهو تحدث عن طموحه الكبير بأن يكون لدينا "الدولة الواحدة ذات الألف وخمسمائة مليون مسلم، وأن تكون لدينا الأخوة الاسلامية كما قررها القرآن الكريم، وايضاً؛ القوانين الاسلامية".
إن الإمام الشيرازي، وهو يكتب هذه الأسطر على دراية كاملة بأن الامة فيها دول، وفيها أخوة، وفيها القوانين، ولكن دول مقسّمة استعمارياً، وأخوة ضمن مفهوم "المواطنة"، فالعراقي أخ للعراقي، وليس للافغاني، او الباكستاني، او الجزائري، او الافريقي، كما هنالك قوانين طالما تحدث عنها في مؤلفاته وانتقدها وحاول تصحيحها، وإذن؛ فنحن امام استحقاق التجديد في التفكير والسلوك ليعرف الانسان المسلم المعنى الحقيقي للأخوة، ويعرف عمق حاجته الى القوانين الاسلامية، وكذا الحال بالنسبة لمسألة الدولة الاسلامية الواحدة دونما حدود جغرافية مصطنعة تحدد حركة المسلمين وعلاقاتهم باخوانهم من المشرق الى المغرب.
يحتاج الأمر الى "عزيمة راسخة من المسلمين لممارسة تغيير حالهم الحاضر الى الحالة الاسلامية التي أرادها الله –تعالى- لهم وذلك لا يكون إلا بسلوك الطريق المؤدي الى هذه الغاية المنشودة"، وقد كتب العلماء عن طبيعة هذه الطرق المؤدية منها ما اشار اليها سماحة الامام الشيرازي نفسه في كتاب آخر؛ "لبندأ من جديد"، عندما أشار الى البدائل والتدرّج في عملية التجديد بما ينسجم مع الظروف النفسية للمجتمع، "فالتصميم وحده ليس مفيداً –في أمر التجديد- بل يلزم سلوك السبل الكفيلة بالنجاح، مثلاً: يلزم المنع عن صنع الخمر في المصانع، تهيئة وسيلة تبديل عمل المعمل الى عمل آخر مربح، والتسويق الجيد لذلك الانتاج الجديد".
بمعنى أننا لا يجب أن ننظر دائماً الى النتائج السلبية بقدر ما نلتفت الى الامكانات المؤدية الى نتائج ايجابية وبناءة وخيّرة، وهذا يعني تجديد الطاقات والقدرات والافكار وطي صفحة الماضي بكل أخطائه.
اضف تعليق