سنضيف عبئا جديدا على الحكومات بمطاردة غير الراغبين بخدمة العلم، وأقول ان ربط التعيين في دوائر الدولة بخدمة العلم يحل هذه الاشكالية، من لم يخدم العلم، لا يحق له التعيين، وبذلك تكون خدمة العلم شرطا، أتمنى ألا يكون البرلمانيون حجرة عثرة في أول خطوة بالاتجاه الصحيح...
يوم تحولت نهارات العراق الى ليل بهيم، أجبرت الجميع على مراوغة جدران الكونكريت التي اكتظت بها شوارعنا، والسير نحو كسب الرزق بخطى متلفته فيما يمكن تسميته بالأرض الحرام بدلا من الشوارع العامة، لتجنب الجماعات التي دججت نفسها بمختلف الأسلحة والسيارات ذات الصناديق الواسعة، والتحصن بالطائفة حتى من كان لا يؤمن الا بالعراق وحده وطنا وأهلا. يؤسفني الاشارة الى تلك المرحلة المخجلة في وقت لا أرغب حتى في استذكارها.
ففي أواخر عام 2006 كتبت مقالا في احدى صحفنا المحلية بعنوان (صهر المجتمع)، دعوت فيه الى ضرورة اعادة العمل بالتجنيد الإلزامي، وبالتأكيد ضحك من دعوتي كثيرون حينها، وربما نُعّت بما لا أرغب به، لكني كنت وما زلت مؤمنا ان التجنيد الالزامي مصهر اجتماعي تذوب فيه جميع الطوائف والقوميات، ما يعزز الوحدة الوطنية ويزيد من تماسك النسيج الاجتماعي، ويمكّن الحكومة من معالجة بؤر التوتر على اختلاف أشكالها، بعيدا عن ذريعتي (الجيش الطائفي) و(التوازن) في المؤسسة العسكرية التي يتشدق بهما البعض.
فالتجنيد الالزامي في البلدان متنوعة التكوينات حاجة ملحة، بوصفه هدفا غير منظور للمؤسسة العسكرية، كما هو حال المؤسسات الجامعية قبل أن تتشظى ليصبح في كل قضاء جامعة او كلية بحيث بمقدور ابن المحافظة اكمال جميع مراحله الدراسية داخل مدينته من دون أن يغادرها الى مدينة عراقية اخرى، فكيف لهذا النسيج أن يتماسك من دون تعّرف العراقيون على بعضهم؟.
وبالرغم من متابعتي الحثيثة لما يصدر من تصريحات بهذا الشأن، لكن لم تطرق أسماعي من ناقش هذا الهدف، سمعت من يتحدث عن التكاليف المادية للتجنيد الالزامي، وما يقتضيه من استحداث دوائر عسكرية في المحافظات، او التضخيم من بعض المعوقات التي ستواجه الحكومة، والاعتراض عليه من بعض القوى السياسية الفاعلة في مشهد الخراب، او عدم رضوخ الشباب له، وفي أحسن الأحوال النظر اليه كمعالجة اقتصادية لامتصاص البطالة، واظن ان هذا تفكير سطحي، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير.
ومع ان الأجهزة الأمنية التي تشكلت بعد عام 2003 سادها عدم التوازن بسبب دعوات بعض المعارضين للعملية السياسية لعدم انضواء الشباب فيها، وكانت مساحة الاستجابة كبيرة جدا في المناطق الغربية، واستشهد كثيرون لمخالفتهم هذه الدعوات التي بسببها غالبا ما وصفت عمليات تصدي الأجهزة الأمنية للأعمال الارهابية بأنها أعمال طائفية، ما جعل أبناء الشعب يتقاتلون فيما بينهم، بينما المحتل يتفرج عليهم.
ان تعميق الوحدة الوطنية هدف سام، تهون معه كل ما يُنفق من أموال وما تُبذل من جهود، ولن يتحقق هذا الهدف بالشعارات والدعوات والأحاديث الاعلامية، بل لابد من تحويل الأفكار الى اجراءات عملية، ويكفي حكومة الكاظمي فخرا انها أول حكومة بعد الاحتلال باشرت بهذا الموضوع.
ويعرف من مروا بهذه التجربة الفوائد الجمة للتجنيد الالزامي، فليس أهم من تنمية الولاء الوطني للشباب، وتعليمهم النظام والالتزام بالعمل واحترام الوقت واطاعة الأوامر، وزيادة معرفتهم بجغرافية بلادهم، والتفاعل مع مختلف مكونات المجتمع، والمصاهرات التي تحدث جراء ذلك وغيرها كثير.
سيقول قائل وبالتأكيد من سياسي الصدفة كما يُوصفون: ان غالبية دول العالم تعتمد على فكرة التطوع وليس الالزام، ونؤكد صحة ما يقول، لكن ذلك في المجتمعات غير المتعددة، وتلك التي تتمتع باستقرار سياسي وأمني، والتي تمكنت من بناء مؤسسات راسخة، ونحن ما زلنا لم نصل لمستواها، وربما نحتاج الى عقود لبلوغ تحضرها وثقافتها.
وربما يقول آخر: سنضيف عبئا جديدا على الحكومات بمطاردة غير الراغبين بخدمة العلم، وأقول ان ربط التعيين في دوائر الدولة بخدمة العلم يحل هذه الاشكالية، من لم يخدم العلم، لا يحق له التعيين، وبذلك تكون خدمة العلم شرطا، أتمنى ألا يكون البرلمانيون حجرة عثرة في أول خطوة بالاتجاه الصحيح.
اضف تعليق