بدل أن تمارس الأفكار والقناعات الثقافية وظيفة تربوية وروحية ومهذبة للأخلاق العامة، ومحفزة على الالتزام بالقيم العامة التي تقوي أواصر الوحدة الاجتماعية. تتحول هذه الأفكار إلى مادة للتأطير الضيق والتنميط والانغلاق، وتبرز الموروثات الاجتماعية والتاريخية في صورها السلبية والمتخلفة، وتبرز عوامل الانعزال واستخدام العنف (عنف القول والفعل)...
من الطبيعي القول: أن السؤال والنقد يؤسسان لعملية انفتاح وتواصل على المستويين الثقافي والإنساني، وأي تجاوز لهذه الحقيقة فإنه يفضي إلى العديد من المآزق وعلى المستويات كافة.
وبفعل هذا السلوك المنغلق والانعزالي والبعيد عـــن الــحس الحضاري والديني السليم، يحدث الانفصال الشعوري والنفسي، وتتشكل كيانات اجتماعية مغلقة، وممانعة لأي صيغة للوحدة والاندماج.
وقد لا نبالغ إذا قلنا أن العديد من الحروب الداخلية والأهلية التي شهدتها بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وبصرف النظر عن مبرراتها التاريخية والسياسية، هي من جراء تراكم العقلية المتعصبة، التي لا ترى إلا لونا واحدا وفكرا واحدا وحقيقة واحدة.
إن هذه العقلية بمتوالياتها النفسية والاجتماعية والسياسية، هي جذر العديد من الحروب الداخلية، إذ أنها بمثابة الحاضن لكل الأسباب والعوامل، التي تعمق الإحن والأحقاد، وتشعل الفتن والنزاعات، وتغلّب جوانب العنف والتصعيد، على جوانب التهدئة والحلول السلمية.
فالعقلية الدوغمائية، تسعى إلى تأكيد خصوصياتها، حتى لو كان هذا التأكيد على حساب مصالح الأمة والوطن.
وبدل أن تمارس الأفكار والقناعات الثقافية وظيفة تربوية وروحية ومهذبة للأخلاق العامة، ومحفزة على الالتزام بالقيم العامة التي تقوي أواصر الوحدة الاجتماعية.
تتحول هذه الأفكار إلى مادة للتأطير الضيق والتنميط والانغلاق، وتبرز الموروثات الاجتماعية والتاريخية في صورها السلبية والمتخلفة، وتبرز عوامل الانعزال واستخدام العنف (عنف القول والفعل) ضد الآخرين.
بينما من يتأمل جوهر الأفكار الإنسانية، يجدها تتجه إلى تربية الإنسان على الالتزام بالقيم الإنسانية العامة التي لا تشكل عامل نفرة بين الاتجاهات المختلفة، بل عامل وحدة وائتلاف، وتقوي هذه الأفكار آفاق السلم المجتمعي، وتعزيز الضمير الإنساني والرقابة الذاتية والاندفاع الطوعي نحو ممارسة الصلاح والخير على مختلف المستويات.
وفي هذا الإطار، لا بد من القول أن العقلية الدوغمائية هي التي تفرغ الدين والقيم العليا من استهدافاتها النبيلة تحت دواع وحجج عصبوية مقيتة.
والمشكلة الحقيقية التي تواجه العالمين العربي والإسلامي اليوم، ليست في تربص أعداء الأمة بنا وسعيهم الحثيث لنهب ثرواتنا والقضاء على مقومات وجودنا الذاتي المستقل. بل في تلك العقلية التي لا ترى إلا قناعاتها، وتمارس في سبيل ذلك عمليات الإقصاء والنفي والقتل إلى كل الثقافات والقناعات الأخرى.
إن هذه العقلية تلتقي موضوعياً مع أعداء الأمة التاريخيين، لأنها هي التي تهيئ الظروف في المحصلة النهائية لنجاح مشروعات ومخططات الأعداء، وذلك لأنها تغذي الأحقاد الداخلية، وتمنع الائتلاف وأشكال الوحدة المختلفة، وتحــارب بلا هوادة الآخرين الذين لا يتفقون أو يشتركون معها في القناعات والأفكار، فتعم الفتن وتزداد العصبيات، وتتراجع قيم العقل والحضارة.
وهذه هي الأرض الخصبة لنجاح أي عدو خارجي في نهب ثروات الأمة والانتقاص من استقلالها وحيويتها الحضارية.
من هنا نرى من الأهمية بمكان، أن يعتني الفكر العربي والإسلامي، بمسائل التنوع والتعدد وقيم التسامح والعدل وآليات تحقيقهما، ويخوض بشكل جاد في أسئلة العصر وتحديات المعاصرة.
فلا يكفي الرجوع إلى فكر المقارنات والمقاربات الذي صاغه مفكــرو القرن الماضي، إذ أن هذه الصياغات كانت محكومة بعقلية التمامية والدفاع عن الذات، وإن حقائق الاجتماع البشري قد وجدت من عهود تاريخية قديمة، وإن البشر لا يصنعون الحقيقة، وأن دورهم ووظيفتهم هي فقط في أن يعثروا عليها.
لا شك أن مواجهة أسئلة العصر وفق هذا المـــنظور وهذه العقليـــة، يـــزيدنا اغترابا، ويعمق في نفوسنا عقداً ومركبات نقص عديدة، بعضها صريح والبعض الآخر يختفي تحت (يافطات) وعناوين أخرى.
ومن المؤكد أن حقل الاجتهاد الفقهي والمعرفي، هو الذي يفتح إلينا العديد من الأبواب والآفاق، حتى يتجه فكرنا المعاصر إلى تأصيل أسئلة العصر في واقعنا الاجتماعي والحضاري.
ولا مجال في هذا الإطار لإنكار واقع التنوع الفكري والثقافي والمعرفي، فهذا التنوع هو من الحقائق البديهية في الاجتماع الإنساني.
ولعل من الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التنوع وحق الاختلاف باعتباره عقبة تحول دون إنجاز الغايات النبيلة، ولا ريب أن العمل على ترذيل الاختلاف ونبذه المطلق، لا ينهي الأسباب الطبيعية للاختلاف، وإنما يغيّر مسارها ويجعلها سببا من أسباب النزاع والصراع، بدل أن يكون وسيلة من وسائل الإثراء الفكري والمعرفي.
فلا يمكن لقوة الغلبة والقسر والقهر من نفي الحـــقوق الـــطبيعية في حيــاة الإنسان، ويأتي في مقدمتها حق الاختلاف.
ومن الطبيعي القول، أن القهر والقسر والإلغاء أشد خطراً وضررا على الأمم والأوطان من ممارسة حق الاختلاف والاعتراف بالتنوع المعرفي والثقافي، واعتباره الوليد الطبيعي لقيمة الاجتهاد وسبيل تعدد الخيارات الفكرية والإستراتيجية في مسيرة الأمة.
لهذا نجد أن القرآن الحكيم يرصد حقائق الاختلاف في الكون والحياة والإنسان ويقول تعالى [ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم] (سورة هود، الآية 118 – 119). والمذموم قرآنيا هو الاقتتال والتنابذ والنفي المتبادل والبغي، لأنها جميعا خروج من طبيعة العلاقات الإنسانية المنشودة.
وثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق، وهي أن الاختلاف في حدوده الطبيعية، يثري علاقة التواصل والتفاعل الإنساني، كما أن الاقتتال والتنابذ قطيعة مع الإنسان الآخر.
فالاختلاف حوار وتواصل وتفاعل، والقطيعة والنفي طغيان واستئثار ونفي لقيم التواصل الإنساني.
وفي الإطار التــاريخي للفضاء العربي والإسلامي، تشكلت استجابات عربية امتثالية، واندرجت في سياق علاقات ولاء وتبعية فكرية ومعرفية لغيرها، بحيث أضحت هذه الاستجابة، وكأنها صدى متواصل للصوت الغربي.
ولاشك أنه حينما تذعن ثقافة لأخرى، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا، لأنها ثــقافة تتجه صوب المطابقة المميتة، دون أن تتحرر من أسر وهيمنة الثقافة الغالبة.
وكما يبدو أن الثقافة المبدعة هي التي تتمكن من بلورة أفق الاختلاف الثقافي والمعرفي، دون أن تقطع أواصر التواصل والتفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى، وليس المقصود من الاختلاف والمغايرة الثقافية هنا هو اعتبار الثقافات الأخرى ذات مكونات هامشية، أو لا ترقى إلى مستوى التوجيه الإنساني، وإنما المقصود هو أن الاختلاف في هذه الدائرة هـو شرط التفاعل الخلاق والاستيعاب الواعي لمنجزات الفكر الإنساني المعاصر. كما أن تنمية عوامل المغايرة والاختلاف الثقافي، هو الذي يؤسس لواقع أو ظروف تغذي الذات الثقافية وتثريها بأبعاد إنسانية وموضوعية عديدة.
وبداية النهاية لأية ثقافة، هي حينما تتجه إلى اختزال وقائعها ومفاهيمها في البحث عن الأشكال المتوافقة أو المنطبقة مع مفاهيم وأشكال الثقافات الأخرى دون الالتفات إلى الشروط التاريخية والاجتماعية لكلتا الثقافتين.
أفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية الواعية مع الثقافات والمكونات المعرفية الأخرى.. (وإن اختلافاً مشروطا بالوعي، يمكن أن يسهم بتغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدية، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها، بما يدفعها من واقع المطابقة إلى أفق الاختلاف، وإذا كان واقع المطابقة يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها لثقافة الآخر، أكثر من انصرافها إلى واقعها التاريخي فإن أرضية الاختلاف غير ممهدة وبحاجة إلى توافر أسباب كثيرة ليصبح الاختلاف أمرا مشروعاً وقائما بالفعل، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد وغيرها.
وبما أن الاختلاف ضرورة تتصل بدائرة التكون الثقافي العربي الحديث فهو مشروط بمحددات تنظم أهدافه وغاياته وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية للعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية، وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع فيها تلك المؤثرات ولا تتعارض ولا تذوب مكوناتها مع مكونات غيرها، ولا تتداخل رؤى هذه برؤى تلك والأهم من ذلك أن تعلن عن أسئلتها الخاصة التي تترتب مقدماتها وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع التاريخي وليس استجابة لمقترحات خاصة بسياقات وأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى) (راجع الدكتور عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، إشكالية التكون والتمركز حول الذات، ص 6).
فوهم المطابقة مميت للثقافة، فلا حياة ثقافية إلا بأفق المغايرة والاختلاف، وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتداعياته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولا تستطيع أن تبلور أو تنشأ ثقافة ذاتية أصيلة.
فتنمية أفق الاختلاف الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معا. فلا أصالة إلا بجوهر الاختلاف الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي، إلا بالتحرر من وهم المطابقة والتماهي بالآخر فكراً وسلوكاً.
فالتعصب والانغلاق، لا يصنع أصالة، بل يصنع واقعا ثقافياً تمور فيه التناقضات بكل أشكالها وأطيافها، وتقوّض النسق أو الأنساق الثقافية المحملة بالمضامين الحضارية الأصيلة، كما أن الحيرة والضياع والغبش في الرؤية، لا يصنعان معاصرة بل يفضيان إلى المزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه.
ويبقى أفق الاختلاف الثقافي هو الذي يعمق الرؤى الحضارية الذاتية، ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه، وبهذا على حد تعبير الدكتور عبد الله إبراهيم يتم تجاوز السجال إلى الحوار ونقد الذات الامتثالية، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤوة وقادرة على إنتاج الفعل، والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى مع المقدرة والإمكانية، لهذا كله ينبغي التأكيد على ضرورة النقاط التالية:
1) ضرورة تدشين الأرضية الصالحة لبلورة أفق المغايرة الثقافية والاختلاف المعرفي، لأنه أحد العوامـل الضرورية لتطوير واقع الثقافة العربية والإسلامية، واستجابتها الفعلية لتحديات الراهن الحضاري والثقافي.
2) تطوير المنظور النقدي والحواري في فضاء الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، لأن الاختلافات الثقافية لا تتحول إلى مصدر ثروة حقيقية للإنسان والثقافة إلا بوعي نقدي يشتت التافه من الأمور، ويثري المضامين الإنسانية والحضارية في الثقافات. وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بعقلية حوارية تبحث عن المشترك فتثريه وتنضجه، دون أن تتغافل عن نقاط الافتراق والاختلاف لمناقشتها ومساءلتها، لا لإنهائها من الوجود والحياة الثقافية والمعرفية، وإنما للوصول إلى صيغة عملية لإدارة نقاط الاختلاف والمغايرة.
فالحوار ليس هدفه النهائي القضاء على نقاط الاختلاف، بل هو وسيلة حضارية لإدارته بعقلية متقدمة.
فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية، كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية.
وبهذا تكون العلاقات الداخلية بين مدارس الثقافة العربية والإسلامية، ذات أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، فتطرد عوامل الحقد والضغينة، وأسباب الاحتراب الداخلي.
اضف تعليق