q
لا بدّ من الإشارة إلى ظاهرة تتعلق بالوعي وعدم ثقة المواطن الفرد بالنظام السياسي ككل، لعزوف نسبة كبيرة ممن يحقّ لهم التصويت، لعدم ممارسة حقوقهم والإدلاء بأصواتهم، والأمر لا يخص العراق وحده، بل يشمل العديد من البلدان العربية والبلدان الفقيرة التي تجري فيها انتخابات بنسبة تصويت منخفضة جداً...

أثار مقتل الناشط المدني إيهاب الوزّاني، رئيس تنسيقية الإحتجاجات في مدينة كربلاء، في 8 مايو/أيار 2021 موجة غضب شديدة في الشارع العراقي. وكان قد نجا في وقت سابق من محاولة اغتيال قُتل على أثرها زميله فاهم الطائي (ديسمبر/كانون الأول 2019). وقد نفّذ الهجوم مسلحون يستقلّون دراجات نارية وبأسلحة مزودة بكاتم للصوت. كما تعرّض صحافي مدني يدعى "أحمد حسن" في مدينة الديوانية بجنوب العراق إلى حادث اغتيال، بعد 24 ساعة من اغتيال الوزّاني، أصيب على أثره بجروح خطيرة.

وفي كلا الحادثين، لم تعلن جهة محدّدة عن مسؤوليتها، كما لم تكشف التحقيقات الحكومية واللجان التي شكّلتها عن هوّية المرتكبين والجهات التي تقف خلفهم، ليتسنّى تقديمهم إلى العدالة، وهو الأمر الذي ظلّت حركة الاحتجاج التشرينيّة التي اندلعت في العام 2019 تطالب به، خصوصاً وقد سقط فيها أكثر من 600 شهيد ونحو 20 ألف جريح، من دون أن تظهر أي نتائج لمعرفة حقيقة ما حصل. وما زال الجناة طليقين، مستمرون في ارتكاباتهم طالما يتم الإفلات من العقاب.

المزاج الشعبي

أثّرت هاتان الحادثتان على المزاج الانتخابي المتعكّر بالأساس، والمشحون بهواجس ومخاوف ومحاذير جراء انفلات السلاح وتغوّل الميليشيات على الدولة، حيث شهدت بغداد استعراضاً للعضلات قامت به المجاميع المسلحة لإبراز قوتها، كجزء من الحراك الإنتخابي، وكرسائل إلى الآخرين لأخذ وجودها بالاعتبار كواقع ملموس؛ يُضاف إلى ذلك استمرار ظواهر هيمنة "المال السياسي" و"مراكز النفوذ" التي كوّنتها المجموعات الحاكمة داخل أجهزة الدولة ومع بعض القوى التقليدية الدينية والعشائرية، فضلاً عن النفوذ الإقليمي والدولي الداعم الاستقطابات السياسية. الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن نتائج الانتخابات سوف لا تكون أفضل من سابقاتها، أي أن التغيير الذي راهن ويراهن عليه البعض بما فيهم محتجو تشرين، ما زال بعيد المنال، وهو رأي أخذ يتردد بصوتٍ عالٍ. فالبيئة السياسية والأمنية ما تزال غير آمنة لإجراء انتخابات حرّة نزيهة، وبإشراف دولي مُحْكمْ.

ويستند أصحاب وجهة النظر هذه على أن البيئة التشريعية القانونية والأداء البرلماني هما دون مستوى الحد الأدنى المطلوب، كما أن الإدارة الانتخابية غير مستقلة، والمقصود بذلك المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فلا الجهاز القضائي يملك قراره بالكامل، ولا حتى المرشّح متحرّراً من التأثيرات والناخب هو الآخر عرضة لمختلف الضغوطات، كما أن الرقابة لمنظمات المجتمع المدني والأطراف الدولية ليست على درجة من الفاعلية لإنجاز انتخابات نزيهة وحرة، فقد كانت التجارب الانتخابية جميعها مُرّةً وطالتها يد التزوير، إلى درجة عزوف المواطن عنها الانتخابات الأخيرة، حيث لم يشارك أكثر من 20٪ من الذين يحق لهم الانتخاب في التقديرات المتفائلة.

ولهذه الأسباب، برزت دعوات لمقاطعة الانتخابات، حتى قبل حصولها، بوصفها "غير شرعية"، بل وصل الأمر إلى وصم العملية السياسية برمّتها بأنها "غير شرعية"، خصوصاً باستمرار النفوذ الإيراني والأمريكي، وتأثيرهما المباشر على القوى والمجموعات السياسية، ناهيك عن استمرار ظاهرة السلاح المنتشر خارج نطاق القانون وعدم تلبية مطالب "حركة تشرين" بمساءلة المتسببين في هدر دماء المحتجّين.

وعلى الرغم من وجود ميل للمقاطعة، فإن الاستعدادات للانتخابات قائمة على قدم وساق، وغالبية القوى السياسية، وخصوصاً منظومة 9 أبريل/نيسان المشاركة في العملية السياسية منذ العام 2003 ما تزال تعتبرها الوسيلة الوحيدة والمضمونة للمنافسة، وهي ما تعوّل عليه، كما أن بعض الشباب في الحراك التشريني لم يجدوا وسيلة سواها للتغيير، لذلك حاولوا تجميع أنفسهم لخوض الانتخابات لمنافسة القوى المهيمنة، لأن مقاطعتها ستعيد القوى القديمة التي صادرت المشهد السياسي واستحوذت على الامتيازات إلى مواقعها، وهي على معرفة ودراية وخبرة بعد تجارب انتخابية أربعة، فضلاً عن وجودها بدواونيّة الدولة وبيروقراطيتها وتمتلك المال والسلاح.

موعد جديد

كان رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، قد أعلن عدم ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية، وهو ما يُحسب له، علماً بأن اختياره لموقعه جاء في ظرف سياسي ملتبس ومريب كمرشح تسوية لعدم تمكّن القوى المهيمنة على السلطة من التوصل إلى مرشح بديل بعد "إقالة" أو "استقالة" حكومة عادل عبد المهدي. وفي ظل تصاعد الصراع الأمريكي - الإيراني وانعكاساته عراقياً، وعلى الرغم من وعوده خلال العام المنصرم، بضبط السلاح المنفلت ومنع استهداف السفارات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية، والأمريكية خصوصاً في المنطقة الخضراء، ووضع حد للفساد ومحاسبة المفسدين وتهيئة بيئة مناسبة لإجراء انتخابات مبكّرة، إلا أنه لم يتمكّن من التقدم جدّياً على هذا الطريق، وظل يقدّم خطوة ويؤخّر أخرى. فما الذي سيحصل؟ وكيف ستتوزّع الخريطة السياسية الانتخابية، والتحالفات التي ستعقبها؟

وكان من المقرّر إجراء الانتخابات يوم 6 يونيو/حزيران، إلّا أن ثمة أسباب فنية (عدم تهيئة البنية التحتية للانتخابات) ومالية (تأخر إقرار الميزانية) وقانونية (عدم اكتمال تشكيل المحكمة الاتحادية) وسياسية تتعلق برغبة بعض القوى الفاعلة، أو عدم استعدادها الكافي، حال دون إجرائها، فتمّ تأجيلها إلى يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، علماً بأن هناك من يشكّك بإمكانية إجراء الانتخابات أصلاً في ظل الأوضاع المعقدة، وحسب الدستور، فإن الموعد الاعتيادي للانتخابات هو كل أربع سنوات، وسيصادف في الربع الأول من العام 2022، أي بعد أقل من 6 أشهر من الموعد الثاني الذي من المقرر إجراء الانتخابات فيه.

ومع إغلاق باب الترشيح، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أنها صادقت على 44 تحالفاً و267 حزباً، حيث بلغ عدد المرشحين 3523 مرشحاً، منهم 1002 مرشحاً عن التحالفات و1634 عن الأحزاب، أما عدد المرشحين المستقلين فهو 887، ومن ضمن المجموع الكلي للمرشحين روعيَت الكوتا النسائية بواقع 25 بالمئة، أي 963 امرأة، علماً بأن 25 مليون عراقي يحق لهم المشاركة في الانتخابات المقبلة في 83 دائرة انتخابية لاختيار 329 نائباً، وفقاً للقانون الجديد الذي يأخذ بمبدأ الفوز بأعلى الأصوات.

يُذكر أن الانتخابات الحالية هي الخامسة وتقرّرت على وقع الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسوء الإدارة وتدهور الخدمات، وتفشي الفساد، واستشراء البطالة، وتردي الواقع المعيشي والحياتي، خصوصاً في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والمذهبي. وكانت الانتخابات الأولى والثانية قد أُجريت في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق (2005 و2010). أما الانتخابات الثالثة، فقد نُظِّمت في العام 2014، وأعقبتها الانتخابات الرابعة في العام 2018.

طوبوغرافيا التحالفات

كيف سيكون المشهد الانتخابي في انتخابات العام 2021؟ وهل ما تزال تدور في فلك "الترويكا" (الشيعية - السنّيّة - الكردية)، أم ثمة تغييرات ستجري عليها؟ ولكي نقرأ تضاريس الخريطة الانتخابية وطوبوغرافية التحالفات في ظل المنافسة الماراثونية، يمكن أن نقرأ جدول القوائم والكتل الانتخابية، كما يأتي.

القوائم الشيعية، وتضم:

كتلة سائرون بقيادة السيد مقتدى الصدر، وهي الكتلة الأكبر في البرلمان الحالي، وتطالب "بأحقيتها" في تولّي منصب رئاسة الوزراء، ويعتبر الصدر الرقم الأصعب في المعادلة الشيعية والرقم الصعب في المعادلة السياسية العراقية عموماً، ويملك ذراعاً مسلحاً كان يُدعى "جيش المهدي". وقد شارك في الحشد الشعبي لمحاربة داعش بإسم "سرايا السلام".

كتلة الفتح بقيادة هادي العامري وقيس الخزعلي، أي حركتي بدر وصادقون، وهي من الكتل القويّة المقرّبة من طهران، وتمتلك إمكانات مالية واقتصادية وعسكرية، وتعلن رفضها المباشر لبقاء القوات الأجنبية في العراق، استناداً إلى قرار البرلمان الذي اتخذه في مطلع العام 2020، وهي من القوى التي لها حضور كبير في الحشد الشعبي.

كتلة دولة القانون، بقيادة نوري المالكي، رئيس الوزراء لدورتين (2006 - 2014)، ومعه حزب الدعوة، إضافة إلى حزب الله العراقي، المقرّب من إيران أيضاً، والذي يعتبر قوة مسلحة ضاربة وجزء من الحشد الشعبي.

تيار الحكمة، برئاسة السيد عمّار الحكيم، المتحالف مع كتلة النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (أحد أجنحة حزب الدعوة الإسلامية)، وكتل صغيرة أخرى، وقد سجّل في رصيد العبادي تمكّنه من إلحاق الهزيمة بداعش في نهاية العام 2017، مع ملاحظة نقد الكرد لموقفه من استفتاء كردستان الذي دعا إليه مسعود البارازاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني وربما كان ذلك أحد أسباب عدم توليه دورة رئاسية جديدة.

المجلس الإسلامي الأعلى، بقيادة همام حمودي، بالتحالف مع منظمة العمل الإسلامي، وقد تراجع أداءه بعد تأسيس تيار الحكمة من جانب السيد عمار الحكيم وخروجه من المجلس الذي كان يترأسه.

وهكذا فإن المشهد الشيعي أصبح متشظّياً ومفتتاً، بعدما كان موحداً، يحتل أكثر من نصف البرلمان ككتلة قوية، لا سيّما عند تأسيسه باسم "البيت الشيعي" (2005).

القوائم السنّيّة

وتتوزّع على ثلاث تجمّعات أساسية:

الكتلة الأنبارية، بزعامة رئيس البرلماني الحالي محمد الحلبوسي، ويسعى لتمثيل السنّيّة السياسية أو جناحها الأكبر وذلك بدعم من الشيعية السياسية والإثنية الكردية السياسية.

كتلة صلاح الدين، وهي تضم بعض سنّة الأنبار بمن فيهم رئيس حزب الحلّ جمال الكربولي، المتفرّع من كتلة الحلبوسي، والملتفّة حول رجل الأعمال خميس الخنجر، الذي يقود تحالف عزم العراق، حيث انضم إليه كتلة سنّة ديالى بقيادة رئيس البرلمان الأسبق سليم الجبوري.

الكتلة الموصلية، ويقودها نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الأسبق أسامه النجيفي، بالتحالف مع رجل الأعمال جمال الضاري (المشروع الوطني للإنقاذ).

وهكذا، فإن المجموعة السنّيّة هي الأخرى متشظّية وغير موحّدة، بل أنها مختصمة.

القوائم الكردية

قائمتان رئيستان، تتوزعان تقليدياً وتاريخياً بين حزبين أساسيين، أولهما: الحزب الديمقراطي الكردستاني، وثانيهما: الاتحاد الوطني الكردستاني.

أما الكتل الانتخابية فهي:

تحالف كردستان بقيادة لاهور شيخ جنكي ويضم الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير "كوران" التي أسّسها القيادي الكردي ناوشيروان مصطفى والتي تعتبر قطباً جديداً سرعان ما حفر له أساساً في إطار التيار الكردستاني.

كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتضم مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي تدور في فلكه، وله نفوذ واسع، حيث يمثّل نجيرفان البارزاني رئاسة الإقليم ومسرور البارازاني رئاسة وزراء الإقليم.

الحركة الإسلامية الكردستانية، أعلنت مقاطعة الانتخابات لعدم وجود ضمانات كافية لانتخابات نزيهة.

الكتل خارج الترويكا

ائتلاف الوطنية بقيادة إياد علّاوي، رئيس الوزراء الأسبق، المتحالف مع صالح المطلك (جبهة الحوار)، وقد بدأ نفوذه ينحسر بعد أن حصل على 91 مقعداً في العام 2010، لكنه لم يتمكّن من تشكيل الوزارة التي حاز عليها غريمه نوري المالكي للمرّة الثانية، بقرار من المحكمة الاتحادية حول تفسير مفهوم الكتلة الأكبر في الدستور (قبل الانتخابات أم بعدها)، علماً بأن إيران كانت تعارض تولّيه هذا المنصب.

قوى مدنيّة أخرى

هناك مجاميع وقوى مدنية غير منتمية إلى الترويكا، ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي الذي كان متحالفاً مع السيد الصدر في إطار كتلة سائرون، وفاز في انتخابات 2018 بنائبين، لكنهما استقالا بعد حركة تشرين الاحتجاجية، وقد تحالف لخوض هذه الانتخابات مع كتل صغيرة أخرى. وهناك بعض الكتل التي تمثّل مجاميع إثنّية أو دينيّة، فضلاً عن مرشحين مستقلين فرادى أو متحالفين مع كتل أخرى، سواء في إقليم كردستان أو في عموم العراق، إضافة إلى كتل ومرشحين محليين في محافظاتهم أو مُدُنهم.

الانتخابات ودستور المكوّنات

وإذا كان هناك شبه إجماع شعبي على ضرورة التغيير، سواء بالانتخابات أم بغيرها إلّا أنّ هناك طيفاً واسعاً من المجتمع العراقي، أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها، فضلاً عن انتشار السلاح خارج دائرة القانون والعدالة، ووجود الميليشيات والتنمّر على الدولة، العاجزة عن لجم أعمال الانفلات على الرغم من محاولاتها. وقد أعلنت بعض القوى مقاطعتها للانتخابات بعد تمادي القوى المسلحة في استهداف النشطاء وعدم قدرة الدولة على وضع حد لذلك، وهو ما سيؤثر على نتائج الإنتخابات.

وتعتقد هذه القوى أنّ مجرد المشاركة في الانتخابات في ظل النتائج المحسومة سلفاً، سيؤدّي إلى المزيد من الإخفاق ويمنح "الشرعيّة" للقائمين على الحكم في إطار منظومة 9 أبريل/نيسان2003، تلك التي استأثرت بالسلطة ما بعد الاحتلال، والتي مارست نوعاً من الحكم أدّى إلى تشويه الفكرة الديمقراطية، خصوصاً في ظلِّ دستور قام على مبدأ "المكوّنات" التي لا تعني سوى المحاصصة الطائفية الإثنية على حساب المواطنة المتساوية والمتكافئة. وقد وردت عبارة المكوّنات في ديباجة الدستور مرّتان، وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142.

ولعل مثل هذه الرؤية تعني تراجع عمليّة التغيير التي راهنت عليها بعض القوى عبر "خيار الانتخابات" المقبلة بالصورة التي ستجري فيها والآليات التي تعتمدها والتقنيّات التي سارت عليها سابقاً، والظروف غير المطمئنة التي تغرق فيها البلاد، وستعني المشاركة حسب بعض وجهات النظر الشبابية من قادة حركة الاحتجاج تبديداً للتضحيات الجسام، حيث سيصاب المواطن بخيبة أمل مريرة تزيد من معاناته، لأنّ البرلمانات التي أنتجتها الانتخابات السابقة توزّعت بين قوائم وحصص للكتل والجماعات السياسيّة ذاتها دون تغيير يُذكر.

وظلّت الائتلافات الثلاثة "راسخة" بين الشيعيّة السياسيّة التي لها موقع رئاسة الوزراء والسُنّية السياسية التي لها موقع رئاسة البرلمان والكردية السياسية التي لها موقع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً لفريق منها، أمّا الفريق الآخر فله وزارة الخارجية أو وزارة المالية، ناهيك عن التوزيعات الأخرى لبقيّة المواقع التي يُطلق عليها "السياديّة".

الصيغة اللبنانية "عراقياً"

إن استمرار صيغة الائتلافات الحاكمة بتدوير طاقمها في إطار زوايا مغلقة يعني تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة، وهو ما يجعلنا نستحضر التجربة اللبنانية لنحو 7 عقود من الزمان، حيث ظلّت تدور داخل الدائرة نفسها، والتي تكرّست بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف العام 1989. وهكذا يتم تكرار تدوير الزوايا على نحو تستطيع كل زواية منها أن تعطل الزوايا الأخرى لما يسمّى بـ"الثلث المعطّل".

ويبدو أنّ التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي ويضعف من الاندفاع الذي يطالب بالتغيير ويعوّل على الانتخابات كإحدى وسائله، بسبب بقاء القديم على قِدمَه، واستمرار الطبقة الحاكمة بمواقعها، على الرغم من فشلها المزمن في تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق المواطن، في ظلّ استمرار الفساد المالي والإداري وانفلات السلاح واستشراء ظواهر العنف والإرهاب وضعف الدولة بتقديم مرجعيات ما دونها إلى ما فوقها باسم الطائفة أو الدِّين أو العشيرة أو الحزب أو المنطقة أو الجهة، ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وارتفاع معدلات البطالة وازدياد مستويات الفقر والجريمة.

الثورة في صندوق الاقتراع

إذا كان شعار "الثورة في صندوق الاقتراع" فإنّ الأمر يحتاج إلى توفّر مستلزمات ضروريّة سياسيّة وقانونيّة وأمنيّة وإجرائيّة، وفي حالة غيابها سيتم تدوير الزوايا الحادّة، الأمر الذي سيزيد الأزمة العراقيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حدّة، وربما يدفع بالمجتمع العراقي إلى المزيد من القنوط والتشاؤم، لا سيّما في ظل أزمة اقتصادية حادة، وتدهور الخدمات الصحية باستمرار جائحة كورونا، وتراجع مستوى التعليم وازدياد نسبة البطالة والفقر. وهذه العوامل جميعها تساعد على استفحال التعصّب ووليده التطرّف، وحين يتحوّل الأخير إلى سلوك يصبح عنفاً، أي الانتقال من التفكير إلى التنفيذ، وحين يضرب عشوائياً يصير إرهابا وإرهاباً دولياً، إذا كان عابراً للحدود.

لقد حكمت الشيعيّة السياسية لثلاث دورات ونيّف في العراق منذ العام 2005، وكذلك حكمت الإثنية الكُردية إقليم كردستان بالتقاسم بين الحزبين منذ العام 1992، فهل تغيّرت الصورة أم ازدادت تعقيداً؟ إنّ نقطة البدء تكمن في إصلاح النظام القانوني والدستوري بإلغاء كلّ ما من شأنه إعاقة تطبيق المعايير الديمقراطية وإزالة الألغام العمليّة التي تعترض ذلك، ولاسيّما العُرف المعتمد تحت عنوان "التوافق" الذي هو في حقيقته نظام للمحاصصة، ولا بدّ أن يعترف الجميع بوجود الأزمة وأن يُبدو الرغبة في حلّها بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد لتأصيل المواطنة وتعميق الفهم السليم لدور البرلمانيّ باعتباره مشرّعاً ورقيباً لما فيه خدمة المجتمع، وذلك برفع درجة الوعي الحقوقي المجتمعي بأهميّة وظيفة الانتخابات وما ترتّبه من نتائج على صعيد التغيير.

الانتخابات والانتقال الديمقراطي

ظلّت الانتخابات أكثر العناصر تحدّياً وحساسية، سواءً للنظم القائمة أو لعملية الانتقال الديمقراطي، ومن الناحية التحليلية فإن انعكاساتها على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ستكون مؤثرة، وذلك لسببين رئيسين، أولهما: له علاقة بحقوق الإنسان والحرّيات العامة، وخصوصاً الحقوق والحرّيات السياسية المعرّفة بالشرعة الدولية ، وثانيهما: فله علاقة مباشرة بالإطار القانوني والإداري لتنظيم الانتخابات ومدى انسجامها أو مقاربتها للمعايير الدولية بما لها من قواعد وآليات وممارسات.

وقد أصبحت الانتخابات، ومنذ هبوب رياح الموجة الثانية العالمية للتغيير في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ، في صلب توجهات ومطالب الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وبرامجها، واتخذت بُعداً أكثر ثقلاً ووزناً، لا سيّما بعد عدد من التحوّلات التي جرت على المستوى العالمي، سواء في البلدان الاشتراكية السابقة ذات الأنظمة الشمولية أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية ذات الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، إضافة إلى بعض دول آسيا وأفريقيا.

ومنذ التسعينيات تعاضدت ثلاث عوامل: الأول نجاح التغيير في أوروبا الشرقية؛

الثاني تململات وحركات احتجاج ونجاحات في بعض دول أمريكا اللاتينية؛

والثالث نجاح نيلسون مانديلا في انتخابات ديموقراطية وإنهاء نظام الفصل العنصري الذي دام نحو ثلاثة قرون من الزمان في العام 1994، وبداية مسلسل جديد في هذه البلدان من تجارب العدالة الانتقالية، الأمر الذي أظهر العالم العربي وكأنه خارج سياق التطوّر التاريخي، في حين أصبح التغيير ضرورة لا غنى عنها، وليس اختياراً فحسب، ومعه أصبح الحديث عن الانتخابات والنظم الانتخابية شغلاً شاغلاً لا سيّما لمرحلة الانتقال، خصوصاً بعد ثورة الياسمين في تونس وثورة النيل في مصر.

لقد وصلت ما أطلقنا عليه "الشرعية الثورية"، التي حكمت في بعض البلدان إلى طريق مسدود، فضلاً عن ذلك فإن بقاء الحال من المحال، إذ لم يكن بالإمكان معاكسة التطور التاريخي بالكامل إلى ما لا نهاية، الأمر الذي اقتضى ويقتضي الانتقال إلى الشرعية الدستورية وهذه تتطلب رضا الناس أي الشرعية السياسية، وحكم القانون أي "المشروعية القانونية".

واستناداً إلى ذلك يمكن القول أنه لا توجد "انتخابات ديمقراطية" دون التمتّع بالحقوق السياسية وهذه الحقوق تعني: الحق في التعبير، الحق في التظاهر، الحق في التجمع، الحق في التنظيم وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والحق في المشاركة، وكذلك لا يمكن قيام انتخابات ديمقراطية في إطار قانون انتخابات غير ديمقراطي أو تعسفي، ولعلّ الكثير من النقد وجه إلى الدستور العراقي والنظام الانتخابي لعدم احترام المعايير والالتزامات الدولية بتنظيم الانتخابات دستورياً وقانونياً، كما هي منصوص عليها في المادة 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية .

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ظاهرة تتعلق بالوعي وعدم ثقة المواطن الفرد بالنظام السياسي ككل، لعزوف نسبة كبيرة ممن يحقّ لهم التصويت، لعدم ممارسة حقوقهم والإدلاء بأصواتهم، والأمر لا يخص العراق وحده، بل يشمل العديد من البلدان العربية والبلدان الفقيرة التي تجري فيها انتخابات بنسبة تصويت منخفضة جداً.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق