عملية التغيير السياسي في المستقبل العراقي سوف تكون مخاضاً صعباً للغاية يتطلب استيعاب التعددية والتنوع الذي يمتاز به المجتمع العراقي، عن طريق ادارة الخلافات بين المكونات بشكل منظم وخاضع للقانون، وهذا الامر يستوجب وجود نخب حاكمة تعمل على اعادة بناء الهوية الاجتماعية-السياسية بين ألوان الطيف العراقي...
يعد الصراع الداخلي للوصول إلى السلطة أمرًا طبيعيًا في جميع الدول والأنظمة السياسية، إذ أن أحد اهم وظائف الاحزاب السياسية كما يرى الفقيه الفرنسي (موريس دوفرجيه) هو الوصول إلى السلطة ومحاولة الاحتفاظ بها قدر الامكان.
لكن الاختلاف بين الأنظمة السياسية يقع في طريقة التغيير التي يتم بها تداول السلطة بين الجماعات والفئات السياسية، إذ يقوم النظام الديمقراطي على أُسس النظرية الليبرالية التشاركية، والتي تبحث في الآلية المثالية الاستايكية المتمحورة حول حرية الترشح والانتخاب ضمن لوائح وتعليمات معينة تكون ضابطة لإيقاع عملية التغيير السياسي المرجوة.
أما النظام الشيوعي فهو يقوم على اساس النظرية الماركسية التي تبحث في تعارض المصالح بين الطبقات الاقتصادية، وخاصة تلك التي تصبح بمرور الزمن على وعي متراكم بمصالحها ومقدار الفجوة بينها وبين الطبقة الحاكمة، مما يعني وعي متزايد بطبيعة المكانة الاجتماعية للطبقات المسحوقة، الأمر الذي يقود إلى ثورة تعمل على تغيير إما الطبقة الحاكمة فقط مع احداث تغييرات في التنظيم الاجتماعي أو تغيير النظام السياسي ذاته بما يتناسب مع توجهات الطبقة الحاكمة الجديدة.
ويعتبر الاختلاف الذي تشتمل عليه عملية التغيير السياسي مترابطاً مع الطريقة التي يعبر فيها الناس عن انفسهم، فالتعرف على طريقة التنشئة الثقافية والسياسية والاجتماعية لها الدور الاهم في معرفة سبب الاختلاف الرئيسي في طرق التفكير بين الناس، ويعرف استاذ الثقافة السياسية الامريكي (غابريال الموند) عملية التنشئة السياسية "بأنها عملية تكوين الثقافة السياسية التي تثمر عن مجموعة من الاتجاهات والمعارف والمعايير والمشاعر، تجاه نظام من الانظمة السياسية، وتجاه ادواره المختلفة، بالاضافة الى دور اصحاب المناصب، كما تتضمن التنشئة معرفة القيم المؤثرة والاحساس تجاه المدخلات والمطالب واحتياجات النظام والمنتج السلطوي الخاص به" [1].
طبقاً لهذا التعريف فإن الموند يرى بأن كل ما يعايشه الانسان من معارف وكل ما يتعرض له من احداث في حياته اليومية داخل النظام السياسي له الدور الاكبر في تشكيل رؤاه وآرائه السياسية تبعاً لطبيعة النظام السياسي الذي يتفاعل داخله، وعليه فإن هنالك تفسير واحد للانقسامات التي تظهر بين فئات المجتمع، وهو طبيعة المحيط الفكري والعقلي الذي نشأت فيه هذه الفئات.
والعراق دولة مكونة من ثلاثة اطياف رئيسية (الشيعة، السنة، الكرد) مع وجود بعض الاقليات إلى جانبها، وقد تأثرت هذه المكونات بالأحداث السياسية التي جرت على طول المسيرة التاريخية لهذه البلاد، وخاصة منذ نشأت العراق كدولة موحدة في عام 1921. وبالرغم من جميع الاحداث السياسية التي عاصرت العراق منذ استقلاله عن المملكة المتحدة البريطانية، ثم الانقلاب على الملكية واعلان الجمهورية، تليها سلسلة انقلابات وضعت حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس الحكم، إلا أن الوحدة الوطنية للبلاد لم تتأثر في تلك الفترة، بل زاد شعور الموانين بالانتماء الى الدولة، حتى لو كانوا معارضين للنظام السياسي.
فلم تكن ثيمة الانقسامات المحلية والعرقية والدينية والقومية امراً سائغاً لعموم المواطنين في البلاد، لكن هنالك ثلاثة احداث رئيسية غيرت مجرى تاريخ الهوية السياسية-الاجتماعية للمواطن العراقي، اولها كان الحرب العراقية-الايرانية، ثانيها غزو العراق للكويت وانسحابه منها بجيش مدمر على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) والحصار العالمي الذي ضُرب على العراق لمدة ثلاثة عشر عاماً، وثالثها هو الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 وتغيير النظام السياسي بالقوة.
ففي الحدث الاول (الحرب العراقية- الايرانية) اصبح هنالك انقسام مذهبي واضح المعالم سياسياً بين (السنة والشيعة) في العراق، إذ يعد تأثير الحرب والتهجير عاملاً رئيسياً في تغذية الانقسامات المذكورة آنفاً، خاصة حملات التهجير القسرية التي اتبعها النظام السابق لما اسماهم بالتبعية الايرانية، والتي اصبحت جزءًا من الذاكرة التاريخية للشيعة المهجرين قسراً في تلك الفترة، الذين اصبحوا يرون ان النظام سني معارض لأفكارهم ووجودهم في هذه المنطقة.
ثم في الحدث الثاني (غزو العراق للكويت) فقد تضررت العقيد العسكرية للجيش العراق، الذي انسحب منهزماً على يد قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، والذي تلاه حصار مدمر على العراق لمدة ثلاثة عشر عاماً، مما ادى الى تفكيك البنية الاجتماعية للمواطن العراقي، إذ لم تعد هويته السياسية-الاجتماعية واضحة المعالم بالنسبة لأفكاره، مما افرز الانتفاضة الشعبانية التي تمثلت في سلسلة من الاضطرابات وعدم الاستقرار في الجنوب والشمال العراقي، مفصحة عن عدم الرضى المجتمعي حول قرارات النظام السياسي بالذهاب الى حروب متواصلة والقمع المستمر للمواطنين، والرغبة في تغييره بالقوة، لكنها فشلت ونجح النظام السياسي باحتوائها بالقوة.
في فترة الحصار التي ضُربت على العراق طيلة تسعينيات القرن الماضي، انتشرت معالم الرشوة والفساد والهجرة من الداخل العراقي الذي بان وكأنه صندوق ديناميت سوف ينفجر في أي لحظة، بالاضافة الى ذلك فقد ساعدت الانقسامات المذهبية (بين السنة والشيعة) والانقسامات القومية (بين العرب والاكراد) على إثراء الوعي الداخلي بالولائات الخارجية.
لتقوم الولايات المتحدة الامريكية في عام 2003 باحتلال العراق عن طريق غزو ذو قرار احادي الجانب في إطار معارضة اغلب دول المجتمع الدولي، وتغيير النظام السياسي بالقوة، وتحويله إلى نظام ديمقراطي ليبرالي، لتحقيق المصالح الغربية بالسيطرة على خطوط نقل الطاقة، وتأمين محيط الاحتلال الاسرائيلي من المخاطر المحيطة به، فضلاً عن بناء قواعد عسكرية ثابتة في العراق لكي يكون منطقة ردع استراتيجية للمصالح المعارضة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط، أخذين بنظر الاعتبار عدم الاستقرار السياسي-الاجتماعي الذي سوف يحصل على المدى الطويل بسبب الانقسامات الداخلية، والتي تجلت معالمها في مؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن عام 2002 برعاية بريطانية امريكية.
فقد أدركت الولايات المتحدة الامريكية أن هذه المكونات وصلت في مرحلة متقدمة جداً من الانقسام الديني، القومي، المحلي إلى درجة صعب معها التواصل والاندماج فيما بينها، مما جعلها تقترح قيام نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي، قائم على التوافقية والمصلحية التي يمكن ان تجمع هذه المكونات على طاولة واحدة للتفاوض حول مستقبل العراق السياسي.
ويمكن تشخيص عملية انشاء النظام السياسي الجديد في العراق بعد عام 2003 بالإشارة الى كتابة مايكل أوكشوت (Micheal Oakeshott) بتعبيره "تبدو الحكومة في نظر بعض الناس مخزوناً كبيراً من السلطة، الامر الذي يلهمهم بأن يتخيلوا كيف تستغل هذه السلطة؛ فهم يملكون مشاريع مفضلة ذات أبعاد كثيرة ويعتقدون أن هذه المشاريع ستجلب النفع للبشرية؛ لذلك فهم يميلون الى اعتبار الحكومة أداة للعاطفة"(2)..
مما اثر في نفسية المواطن العراقي بسبب خروج بلاده من حصار مدمر، والانفتاح بشكل مفاجئ على العالم، اضافة الى فوضوية المرحلة الانتقالية التي استمرت من عام 2003 الى عام 2006، وما صاحبها من تشكيل فرق مقاومة للاحتلال، وفرق موت للانتقام والتصفية من قوات النظام السابق، الامر الذي أدى إلى اندلاع الحرب الطائفية التي عززت الانقسامات اكثر فأكثر، واوصلت العراق إلى نقطة اللا عودة.
وبما أن الحكومات المتعاقبة منذ عام 2006 وحتى عام 2021 تشكلت على أساس توافقي، فقد كانت المحاصصة والمحسوبية والزبائنية الثيمة الاساسية المشكلة لها، بسبب تحول الصراع بين المكونات المجتمعية من صراعات ذات طبيعة مذهبية-قومية-محلية، الى صراعات من أجل الفرص السياسية والاقتصادية، مما أدى الى فقدان الامن المجتمعي، وانتشار الارهاب وزيادة المشاكل الاقتصادية المتمثلة بعدم تنويع مصادر الدخل القومي والاستمرار على الاقتصاد الريعي للنفط، زيادة نسبة البطالة، وهيمنة سياسية التوظيف في القطاع العام على حساب القطاع الخاص، مؤدياً إلى ترهل مؤسسات الدولة.
ونستنتج مما سبق أن عملية التغيير السياسي في المستقبل العراقي سوف تكون مخاضاً صعباً للغاية يتطلب استيعاب التعددية والتنوع الذي يمتاز به المجتمع العراقي، عن طريق ادارة الخلافات بين المكونات بشكل منظم وخاضع للقانون، وهذا الامر يستوجب وجود نخب حاكمة تعمل على اعادة بناء الهوية الاجتماعية-السياسية بين الوان الطيف العراقي، من خلال الالتفات الى احتياجات المواطنين ومتطلباتهم، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية-العرقية-المحلية.
وهذا الامر يتطلب من المكونات احترام مؤسسات الدولة والقانون والرغبة في تجاوز الولاءات الفرعية للاندماج والانصهار في هوية وطنية موحدة. لان عملية التكامل بين الحاكم والمحكوم امر رئيسي في تصحيح مسار عملية التنمية والتقدم.
اضف تعليق