إشكالية بناء الدولة لدى العديد من الدول الفاشلة أو الضعيفة تكمن في ضعف الحكم والإدارة والتنظيم وقصور المؤسسات على مستوى الأمة الدولة. فبناء الدولة بحاجة إلى بناء المجتمع أولاً، ورأب التصَّدع الحاصل بين السلطة والمجتمع من خلال التنمية البشرية والسياسية الصحيحة وتقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة...
يعد مفهوم بناء الدولة من المفاهيم التقليدية والحديثة، فهو قديم حينما نشير به إلى حقبة الاستعمار، أي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة، المفهوم الذي تزامن مع موجة استقلال الدول من الاستعمار الغربي، إذ يراد به التحرر من هيمنة الاستعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن تحقيق التنمية السياسية، سواء بتنمية الفرد أو المؤسسات الهادفة لذلك، وتحقيق الأمن وصياغة الدساتير.
أما المفهوم الحديث لعملية بناء الدولة، فقد شاع بعد الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، وسيادة الفلسفة الليبرالية والعولمة، إذ ارتبط بالتركيز على عملية بناء الدول الفاشلة والضعيفة؛ لكونها أصبحت تمَّثل مركز التهديد للاستقرار والأمن الدولي والعالمي، وأخذ المفهوم الحديث يشير إلى القضايا الأساسية التي إنبنت عليها الدولة القومية الحديثة والفلسفة الليبرالية، كالتنمية وحقوق الإنسان والديمقراطية وتمكين النساء والشفافية والمشاركة السياسية والإصلاح الاقتصادي... وغيرها من المفاهيم المعاصرة.
إن التغيير السياسي الذي حصل في العراق عام 2003، ربما نستطيع أن نقول فيه، بأنه نقل الدولة العراقية من المفهوم القديم إلى المفهوم الحديث، على الرغم من السلبيات والتداعيات الكبيرة التي ترتبَّت على عملية الانتقال، أو على النموذج العراقي الجديد، سواء تلك التي ارتبطت بنشأة الديمقراطية والتحديات الإرهابية أو تلك التي ترتبط بالتحديات الداخلية وسلوكيات الأحزاب والقوى السياسية العراقية وتنامي الجماعات المسلحة. وفي ضوء ذلك، سنحاول أن نبين إشكالية بناء الدولة في النموذج العراقي من خلال المتطلبات الأساسية لعملية بناء الدولة في نظرية العالم الأمريكي والت ويتمان روستو(1):
أولاً: الهوية، وهي ضرورية للأمة، إذ تعتبر اساس وجود الدولة ومحركها ورمزها، فهي بمثابة الانتماء القومي للدولة، التي تتجاوز الولاءات الفرعية، لتكون الدولة الهوية القومية لكل أفرادها، وتشير الهوية بشكل دقيق إلى مفهوم المواطنة في المجتمع، وأن غياب هوية الدولة، يعني بروز الهويات أو الولاءات الفرعية (الطائفة، العرق، القومية، الدين، اللغة، القبيلة والعشير). وأن فشل الدولة في الحفاظ على هويتها، سيزيد من حالة التقلبات السياسة وعدم الاستقرار، وربما تدخل الدولة والمجتمع في حروب أهلية وحالة عدم استقرار دائم، والحفاظ على هوية الدولة، يقترن بعملية بناء الأمة، وهي عملية دعم التكامل القومي بإنشاء مؤسسات قومية مشتركة ورموز للوحدة.
وهي بحسب ألموند: "تلك العملية التي ينقل بها الأفراد ولائهم وارتباطهم من الجهات المحلية ليصبح هذا الولاء نحو السلطة المركزية المتمثلة في النظام السياسي". فالتحديث السياسي بالنسبة لروستو يرتبط بمصطلح القومية وأهم جوانب التحديث في رأيه هو تطور الشعور القومي وظهور الدولة القومية؛ لأن التحديث السياسي يتضمن التغيرات التي تحدث في القيم والاتجاهات والنظم والبناءات بهدف إيجاد نظام سياسي متكامل وبناء دولة المؤسسات.
في ضوء ذلك، نلاحظ بأن التجربة العراقية بعد عام 2003 فشلت فشلاً ذريعاً في الحفاظ على هوية الدولة (داخلياً وخارجياً)، فالنموذج الجديد أصبح يتعامل مع المجتمع والدولة بلغة المكونات (القومية، العرقية، الدينية، المذهبية، فضلاً عن الحزبية)، وامتد هذا الفشل إلى العالم الخارجي (الدولي والأممي)، حتى أصبحنا أمام نموذج فاشل ومشلول. فنجد على سبيل المثال العلاقة بين المركز والإقليم، علاقة مشوهة غير خاضعة إلى قواعد أو قوانين أو دستور، واتساع الهوة والتفاوت الطبقي بين المجتمع العراقي، فضلاً عن التباينات العرقية والأثنية، والنفور من الإرث الثقافي للدولة العراقية؛ مما ادى إلى تلاشي المفهوم القومي للدولة.
ثانياً: السلطة، وهي ضرورية للدولة، إن طبيعة السلطة في العراق ما بعد 2003 كانت وما تزال أحد أبرز الإشكاليات في عملية بناء الدولة، فمنذ التغيير ولحد الآن، لم تكن السلطة قائمة على اساس احترام القانون والدستور وتطبيق العدالة، وانما كانت سلطة انتقائية وضعيفة، قائمة على اساس دعم سلطة ونفوذ الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة على حساب سلطة الدولة والمجتمع، فكل الجماعات السياسية العراقية، ولاسيما تلك التي مسكت برئاسة الوزراء سعت إلى بناء السلطة دون الدولة، وهذا الامر خلق أزمة كبيرة جداً بين النظام السياسي والمجتمع، وأدى إلى تآكل شرعية النظام تدريجياً؛ الأمر الذي ولَّد ارتدادات مجتمعية كبيرة، كاجتياح تنظم داعش للعراق، او تنامي حركات الاحتجاج الشعبي بشكل غير مسبوق، وربما يؤدي في المستقبل القريب إلى تمَّرد اغلب طبقات المجتمع على النظام السياسي بشكل اكبر واوسع من ذي قبل.
ثالثاً: المساواة، وهي أساسية للحداثة، إن التجربة الديمقراطية العراقية بعد عام 2003، لم تعالج بصدق عملية التفاوت المجتمعي والفقر وعدم المساواة، الذي خلفه النظام السياسي السابق، ولم تضع العراقيين بشكل متساوي أمام القانون، بل على العكس من ذلك، ساعدت في زيادة الفجوة الاقتصادية والسياسية بين طبقات المجتمع بشكل كبير جداً، وأدت إلى عدم تكافؤ الفرص بينهم، فضلاً عن غياب المساواة في تطبيق القانون، فنرى المواطن البسيط على سبيل المثال، يحاسب بأشد العقوبات، إذا ما ارتكب مخالفة بسيطة، بينما لا نرى ذلك مع المسؤول أو المتحَّزب، أو مع عراقيي الخارج بشكل عام، فضلاً عن التفاوت الطبقي والاجتماعي والسياسي بين عراقيي الداخل والخارج؛ مما انعكس سلباً على طبيعة ومسار بناء الدولة العراقية ومجاراتها لمشروع الدولة الحديثة؛ لذلك تعد (المساواة والسلطة والهوية) من الأسس السياسية المهمة للدولة القومية الحديثة.
فضلاً عن ذلك، فإن إشكالية بناء الدولة لدى العديد من الدول الفاشلة أو الضعيفة تكمن في ضعف الحكم والإدارة والتنظيم وقصور المؤسسات على مستوى الأمة الدولة. فبناء الدولة بحاجة إلى بناء المجتمع أولاً، ورأب التصَّدع الحاصل بين السلطة والمجتمع من خلال التنمية البشرية والسياسية الصحيحة وتقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي، فقوة الدولة تكمن في قوة قدراتها المؤسساتية والإدارية على تصميم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ؛ لأن قوة الدولة تقاس بمدى كفاءة وفعالية وقدرة مؤسسات الدولة على أداء وظائفها والأهداف المختلفة التي تضطلع بها.
اضف تعليق