في منطقة الشرق الأوسط... غير مسموح لاحد ان ينفخ في النار... لأنها بالتأكيد ستحرق وجه النافخ... تركيا التي تحن كثيرا الى وجهها الإسلامي بطابعة العثماني (أيام السلاطين) ... ابتعدت كثيرا عن واجهتها الاوربية في زمن اردوغان... لضعف العلمانية او لعدم رغبة حزب العدالة والتنمية في ذلك... الامر سيان بالنسبة لرغبة "تركيا الجديدة"، (وهو لقب يحب ان يطلقه الرئيس التركي "رجب طيب اردوغان" على تركيا اليوم)، في الاتجاه السياسي الذي سلكته خلال القرن الأخير... من علاقتها بإسرائيل ومرورا بخطوات التقارب "شبه الميتة" مع الاتحاد الأوربي، مرورا بحلف شمال الأطلسي وشراكتها المتوترة مع الولايات المتحدة... وصولا الى احداث الربيع العربي وما جرته الى العالم العربي من أزمات... كانت خلالها تركيا... او اردوغان، حاضرا بقوة مع مصر والسعودية والعراق... وقبل كل هذا، الازمة السورية.
ومع ان الربيع العربي لم يكن واضح المعالم... او تعرض لانحرافات من أطراف داخلية وخارجية... فقد تحول زمام الأمور، في عدد من دول الربيع العربي، بيد التنظيمات الإرهابية لاحقا... خصوصا في سوريا... وهو تحول اجبر الدول التي دعمت انهاء نظام "الأسد" على التواصل مع "أجمل القبيحين" من بين هذه التنظيمات... او الرجوع الى "النظام" نفسه... لكن يبدو ان البعض من هذه الدول "الداعمة"، ومنها تركيا، قد فضلت الإصرار على الخيار الأول واستبعاد الثاني... مع وضع شروط إضافية على خيار الولايات المتحدة الامريكية بإقامة "تحالف دولي" في حال قررت الانظام اليه.
وقد حذر نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن"... قبل أشهر، دولا اسماها بأسمائها الحقيقية، ومنها تركيا، من "دعم جماعات متطرفة من اجل سقاط نظام الأسد"، مؤكدا ان هذا الامر لا يتم بهذه الطريقة... وقد كانت التهم والتسريبات والفضائح تحول حول علاقة "حكومة اردوغان" مع تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة"... اقوى الجماعات الإسلامية المتطرفة في سوريا... حتى ان صورا ومقاطع فديو سربتها عدد من الصحف التركية المعارضة، بينت كميات كبيرة من الأسلحة يتم نقلها في عربات تحمل دواء ومساعدات إنسانية، يتم تهريبها الى سوريا لتصل الى المعارضة بمساعدة الأجهزة الاستخبارية التركية.
الخلاصة من الازمة السورية بعد أكثر من أربع سنوات من اندلاعها... ان النظام لم يسقط بخلاف اغلب التوقعات... وهو مالم يتم ادراجه ضمن حسابات اردوغان عندما كان رئيس للوزراء... وبحساباته الجديدة عندما أصبح رئيسا للجمهورية التركية... كما لم توافق الولايات المتحدة الامريكية على شروط اردوغان الأربعة... والتي كان أبرزها إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية... وهي فكرة ايدتها فرنسا بشدة.
امام هذا التطور وما رافقة من احداث سريعة في الأشهر الاخيرة... برزت بعض المخاوف التركية على جبهتها الحدودية مع شمال سوريا... والتي تمثلت في امرين مهمين
- صعود نجم "الاكراد" او "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" ووحدات حماية الشعب المسلحة... التي تعتبرها تركيا حركات إرهابية... بعد ان قدمت لها الولايات المتحدة الامريكية الدعم والاسناد في "كوباني" و"تل ابيض" وغيرها من المناطق الشمالية... طبعا هذا الامر اثار حفيظة "حزب العدالة والتنمية" واردوغان...فتركيا التي تضم (14) مليون كردي...تخشى من ردود الأفعال الانفصالية.
بالمقابل فان اردوغان أكد انه لن يسمح لدولة كردية قد تقام في سوريا... اما "المعادلة البرلمانية" التركية... فقد تغيرت هي الأخرى في غير صالح "حزب العدالة والتنمية" بعد صعود الأحزاب الكردية الى البرلمان في سابقة جديدة...
- الصراع اقترب كثير من الحدود التركية... الجماعات المتطرفة تقضم حلب تدريجيا... وتنظيم "داعش" أعلن عن رغبته الواضحة في دخول خط الازمة والتهديدات التي تشمل تركيا... والمعارك الميدانية في شمال حلب... اخذتها الحكومة التركية على محمل الجد، وسط نفير عام للجيش التركي على طول الحدود مع سوريا... وحركة مستمرة لأرتال عسكرية ومدرعات وناقلات وصواريخ وعتاد على طول الجبهة، بمساندة جوية كثيفة... واجتماعات مكثفة لبحث سيناريوهات المرحلة القادمة، التي طرح منها العودة الى إقامة عملية عسكرية محدودة للجيش التركي، داخل الأراضي السورية، لإقامة منطقة عازلة تؤمن الحدود التركية من هجمات محتملة من الجماعات المتطرفة او الاكراد.
مع ان تركيا لم تحسم امرها بعد... ولم تؤكد الذهاب الى خيار الحرب لوحدها... فان الاحتمال ما زال قائما... وهو ما قد يدفع تركيا الى خيار الدخول بصفة مباشرة في الازمة السورية بعد ان كانت تفضل إدارة هذا الملف عن بعد... بالنتيجة، خيار الحرب سيكون مكلفا وثقيلا على اردوغان وحزب العدالة والتنمية... سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا.
اما الوقوف ساكنا من دون حراك... فقد يعني تنمر الاخرين على طول الحدود التركية... والمزيد من الهاربين من جحيم المعارك... وربما العمليات الانتحارية او الهجمات المسلحة.
لكن... هل يمكن ان تدرس "تركيا الجديدة"، الخيار الذي طالما استبعدته عن اجنداتها... التعاون مع "نظام الأسد" وحلفائه في مواجهة المد المتطرف قرب حدودها... او القبول بـ"التحالف الدولي" من دون شروط مسبقة... من يدري فالأيام القادمة ستحمل الاخبار التي قد تجيب عن بعض هذه التساؤلات.
اضف تعليق