وعندما تمتلك الفكرةُ سُلطةً ذاتية، تستغني عن سياسةِ الأمر الواقع، وسُلطةِ المعرفة المُستمدة من الإسناد الخارجي. والفِكرةُ الحقيقية هي التي تستطيع الصُّمودَ في الزمان والمكان وحيدةً، بدُون عوامل خارجية، ولا مُسلَّمات افتراضية، ولا حماسة المُدافعين عنها. وكُل ضوء لا يَنبع مِن ذاته، فمصيره الانطفاء عاجلًا أَمْ آجِلًا...
(1)
حقائق الوجود الاجتماعي تُمثِّل نظامًا إنسانيًّا قادرًا على تأويلِ الأنساق الثقافية وتجميعِ الإفرازات المعرفية، وتركيزِها في بؤرة الأفكار التي تتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية. وإذا انتقلت الظواهرُ النظرية ذات الطبيعة الفلسفية من التَّجريد إلى الواقع، فإنَّ معايير جديدة ستنشأ في المجتمع، وتُعيد صياغته وفق أساس عقلاني أخلاقي، يُوازن بين الشعور المعنوي باعتباره ماهيَّةً وجوديةً للتماسك الاجتماعي، وبين المصلحة المادية باعتبارها قُوَّةً دافعةً لأحلام الفرد وطاقاتِ الجماعة.
وعمليةُ التوازن بين الشعور المعنوي والمصلحة المادية هي الضمانة لحفظ المجتمع كَجِسْم حَي وفَعَّال، يملك القُدرةَ على مُمارسة أنشطته الحيوية، وتحقيق الاستقرار الذاتي في المشاعر الإنسانية والأفعال الإبداعية والتطبيقات الواقعية، بدُون الحاجة إلى إسناد خارجي، أو البحث عن شرعية خارج حدود المجتمع، لأن المجتمع الحَيَّ والفَعَّال هو مانح الشرعية لِنَفْسه، وواضع القوانين لنظام حياته، ولا يَنتظر الشرعية مِن أحد، ولا يأخذ القوانين مِن غَيره. وهذه هي فلسفة الوجود الاجتماعي النابعة مِن طبيعة كِيانها، والعارفة بحدوده، والمُدرِكة لأبعاده.
(2)
الوجودُ الحقيقيُّ يقوم على رُكْنَيْن: الوَعْي المعرفي الذي يُكوِّن ضوابطَ التغيُّر الاجتماعي في ضَوء التطورات الثقافية، والقُوَّة الذاتية التي تُجسِّد الشَّرعيةَ والمَشروعيةَ، شَرعية الحُلْم الإنساني ومَشروعية تطبيقه على أرض الواقع. والوَعْي والقُوَّة مُتلازمان ومُندمجان، يُوجَدان معًا، ويَغيبان معًا. وإذا حدث انفصال بينهما، فهذا دليل على عَجْز المجتمع الإنساني عن تَوليدِ أنساق معرفية إبداعية، وتحويلِ الكلام إلى فِعْل، وتأسيسِ مبادئ منطقية تَحكم السلوكَ الفردي، وتتحكَّم بقوانين الجماعة.
لذلك ليس غريبًا أن يكون الوَعْي هو قُوَّةَ الفرد، والقُوَّة هي وَعْي الجماعة، وهذا الترابط المركزي هو أساس التلاحمِ الإنساني، والالتحامِ بين مُكوِّنات النسيج الاجتماعي. ولا يُمكن تشييد البناء الاجتماعي على قاعدة الحرية والتحرر، حرية التفكير والتحرر من الخَوف، إلا بتجسيد الوَعْي في خصائص المجتمع الإنساني، لحمايته مِن التفكك والصراع مع العناصر الداخلية والصدام مع العناصر الخارجية.
وبما أن الاستقرار شرط للإبداع، والإبداع طريق النهضة، كان لِزَامًا إنتاج أنساق ثقافية وظواهر اجتماعية، تُدرِك قيمةَ الوَعْي وأهميته، وتُوفِّر له حاضنةً شعبيةً، كي يصيرَ أسلوبَ حياةٍ وثقافةَ مُجتمعٍ. وعندما يحتضن الشعبُ فكرةً ما، فإنَّه سيُدافع عنها، ويَحميها مِن الاندثار، ويَمنحها شرعيةَ الوجود في قلب التفاعلات الاجتماعية. وبذلك تُصبح للفِكرة سُلطة قائمة بذاتها، وتأثير في المصالح الشخصية والمنافع العامَّة.
وعندما تمتلك الفكرةُ سُلطةً ذاتية، تستغني عن سياسةِ الأمر الواقع، وسُلطةِ المعرفة المُستمدة من الإسناد الخارجي. والفِكرةُ الحقيقية هي التي تستطيع الصُّمودَ في الزمان والمكان وحيدةً، بدُون عوامل خارجية، ولا مُسلَّمات افتراضية، ولا حماسة المُدافعين عنها. وكُل ضوء لا يَنبع مِن ذاته، فمصيره الانطفاء عاجلًا أَمْ آجِلًا، ومَن انتظرَ طَوْقَ النَّجَاة مِن الآخرين فقد حَكَمَ على نَفْسه بالغَرَق، ومَن كانت شرعيةُ وجوده مُستمدةً مِن وُجود الآخرين، فسيجد نَفْسَه في نهاية المَطَاف وَحِيدًا بلا وُجود ولا شرعية.
(3)
العلاقاتُ الاجتماعية لَيست كُتَلًا وجودية صَمَّاء، أو قوالب حجرية جاهزة مُسْبَقًا، وإنما هي تيارات واعية ومنطقية، تُدرك طبيعةَ ذاتها، وتتدفق باستمرار في صَيرورة التاريخ، الذي ينتقل من الإدراك الشُّعوري إلى الفِعْل المادي. ووظيفةُ العلاقة في إطار التواصل الاجتماعي هي تأسيس منطقها الخاص، وتشييد طريقة التفاعل المُتَّزن والمُتوازن مع الإنسان والبيئة واللغة. وهذا يُسهِّل عملية تكوين نُظُم فكرية قادر على التَّكَيُّف معَ الظروف الصعبة التي تضغط على الحُلْم الإنساني، وتُهدِّد وُجودَه، وتُشكِّك في شرعيته ومَعناه وجَدْواه.
وإذا استطاعت النُّظُمُ الفكرية استثمارَ منظومة الوَعْي والقُوَّة بكل تفاصيلها الزمنية وانعكاساتها المكانية، مِن أجل صناعة حالة اجتماعية عامَّة وشاملة تؤمن بأن الوَعْي هو قُوَّة الحُلْم الإنساني، والقُوَّة هي الوَعْي بالحُلْم الإنساني، فإنَّ الأحلام ستدخل في دائرة الحقائق الاجتماعية، والمشاعر ستدخل في حيِّز الأفعال التطبيقية.
اضف تعليق