وبما ان الصراعات السياسية على السلطة فتت الوحدة العضوية للمجتمع وخلقت فوراق طبقية تحت تأثيرات هائلة، استدعى ذلك ضرورة خلق وعي طبقي من اجل التحويل الديناميكي للنظام المجتمعي الى استرداد الذاتية الضائعة لتوفير إمكانية تكوين قوة اجتماعية حقيقية وفاعلة بعفوية ثورية فطرية تتطلب تطوير المرحلة الجنينية للوعي...
ان الوجود البشري في ظل عمليات تفاعل دائمة عضوياً وايكولوجياً حتى تنزع شروط ذلك الوجود لتمظهرات آنية وتترسب لإعادة انتاج ذاتية تعكس شكلانية خاصة ترافقها تحولات دراماتيكية ترهص مجالات متجددة يتحدد مصيرها استناداً على قدرة افراد المجتمع انفسهم في التحكم بها والتعبير عن استمراريتها والدفاع عنها، وفق طبيعة متذوتنة في واقع اجتماعي معين تحكمه مجموعة من المفاهيم والأفكار والعقائد، لتحدد وفق ذلك منهجيات تنظيم المحيط وادراكه.
فالحركية الاجتماعية تعبر عن قوتها الحية بعيدا عن جميع اشكال السلطة المفروضة، والعودة للذات الاجتماعية واسترداد قيمتها هو ما كان المجتمع العراقي بأمس الحاجة اليه، وضرورة الانفكاك عن قدسية السلطة بكل جوانبها التي هيمنت على الذاكرة والجسد الاجتماعيين، حتى باتت ارثاً ميثولوجياً لا يكاد ينفك عن أي تحقيب زمني لمراحل تعاقبية السلطة.
وبما ان السلطة وليدة الحاجة الاجتماعية واستجابة وظيفية للزوميات التنظيم وفرض الواجبات وفاءً لصيانة الحقوق، فإنها تنطلق من الرحم الاجتماعي لتعبر عن تموضعها الخاص في رأس الهرم الاجتماعي، الا ان انحرافاتها المتكررة وانسلاخها بدل اتصالها بالجسد المجتمعي العراقي مهد لها ان تكون فوق المجتمع بداعي قوتها الاكراهية وكأنها تتبرأ من مرجعيتها الاجتماعية، فقسمت المجتمع وفككت مؤسسات الدولة الحيوية وبلورة كيانات متشظية في دوامة حركية مضطربة أضعفت الرمزية الوطنية وشوهت ملامح الهوية وفرضت اشكالاً تتعارض مع بنيوية الكيان الاجتماعي وبديهياته، فعمليات التنميط والقولبة فسحت المجال لمفاهيم مغايرة للدور تعكس ثقافة فرعية أو طائفية عصبية متشددة، فانجرف المجتمع نحو تأسيس منهجية إثنية (ايثنوميتودولوجيا) لبناء تمثلات اجتماعية وهوياتية خاصة خلقت ترسبات حرجة وخاضعة لتطور متوتر.
ان التعددية القيمية والمصلحية المتواترة -رغم انها طارئة ونسبية- لكنها استوعبت وكيفت الفكر الجمعي العام واثرت في نخبويته، فما لبثت ان توجه السلوكيات وتخلق ثقافة نائية وتؤثث مديات مستقلة بذاتها رسخت انقساماً عنيفاً في الرؤى والاهداف، وتجميد أي تطورية تاريخية لحلحلة الواقع وانضاجه، فأسست لواقع اجتماعي ذرائعي منبوذ، أفرز مجاميع تحاول ان تحل كبديل غير متكافئ عن الدولة لتؤلف كيانات بنظام عضوي أو شمولي تتوحد ضمن قيادات قبلية اجتماعية أو دينية أو سياسية تقوم على بناء (مافياوي) يقوم على تضامن جماعة معينة تتسم بروح العصبية أو النمطية الطائفية، ينشد استعادة اهميته دورياً مستنداً إلى دور العاطفة في الحياة الاجتماعية وهو ما يمنح افضلية لولادة أي مجموعة عاطفية عصبية يمكن التحكم بها، والتسليم بمقدس اجتماعي مجهول الهوية ينمو بشكل مضطرد داخلها لإعمال الروابط السايكولوجية والعاطفية على حساب الروابط العقلانية، وتحقيق أهداف سياسية وكبح أي قوة تغييرية والحفاظ على ديمومة وضعها القائم.
حتى بلغت مبلغاً من التخمة والغنى على حساب الجماهير التي تقودها وباتت القوى السياسية وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي تحيا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بسبب تطبيق جمهورها لما يعرف بـ(القطيع الحائر)، وقبول اتباعها مبدأ العزوف والتخلي عن الإحساس الحي بحقوقهم بكل سذاجة وتطبعهم بفكرة ان كل تغيير يجيء بقوة شعبية يكون مدعوماً سياسياً من الخارج أو مؤامرة سياسية داخلية لتشكل تحولاً تعسفياً جعل المجتمع والدولة تحت تهديد الميليشيات، فزعزع ذلك من ثقة المجتمع بنفسه وبقدراته الانجازية التي كانت غائبة دوما عن ذهنية صانعي القرار السياسي العراقي منذ عقود.
ان أي حراك اجتماعي بأمس الحاجة إلى تكوين بطيء بشكل تدريجي ووجود عقيدة أو برنامج عمل يرجى تحقيقه وهو ما كان واضحاً وفق المطالب وبشكل تصاعدي في حراك تشرين لكنه كان يحتاج ادراكية اجتماعية وقيادية أكبر ومساندة حقيقية وهذا يتعامد مع ما قاله "ويلهلم رايش" بأن: (وعي الجماهير ليس جاهزاً الا انه ليس غائباً)، وبقطع النظر عن كون ذروة الحراك الشعبي بلغت اشدها في تشرين الاول من عام ٢٠١٩ والتي ما لبثت ان تطورت حتى تكشفت فداحة القوة الغاشمة بين نطاقي سلطة القانون وضغط المجاميع المسلحة الخارجة عن القانون، التي احتفظت بالإرث القمعي وبمسارات تراكمية.
وبما ان الصراعات السياسية على السلطة فتت الوحدة العضوية للمجتمع وخلقت فوراق طبقية تحت تأثيرات هائلة، استدعى ذلك ضرورة خلق وعي طبقي من اجل التحويل الديناميكي للنظام المجتمعي الى استرداد الذاتية الضائعة لتوفير إمكانية تكوين قوة اجتماعية حقيقية وفاعلة بعفوية ثورية فطرية تتطلب تطوير المرحلة الجنينية للوعي والموقف ازاء هيمنة القوى السياسية والإسلاموية والفوضى الحزبية واللامسوؤلية في الاداء السياسي، سعياً لترسيخ ملامح نظام اجتماعي جديد متحرر ومرن بفاعلية حركية هائلة ضمن ثوران اجتماعي شبابي ناضج وفذ.
فالضرورات الحتمية للحراك انطلقت من تناقضات واختلاف متطلبات الشباب ومشاكل الفقر والجوع والبطالة وانتهاك الكرامة الإنسانية والمستقبل المغيب التي هي في الاساس محور التفاعل الديناميكي، وان ادراكهم لحقيقة الفوارق الطبقية وسطوة الاوليغارشيات التي تستحوذ على موارد العراق ولد قناعات ذهنية مطلقة بضرورة التغيير الشامل وليس المرحلي، لاسيما مع استمرار الاغتيالات السافرة للناشطين المدنيين أو للرموز المشاركة في حراك تشرين من قبل المجاميع المسلحة.
عبر الحراك الشعبي عن حركية خرقت الاختزالية الاجتماعية مستثيرة اياها في اللاوعي الجمعي ومستفزة لها للتحول نحو حالة الوعي، تجسد ذلك في سلسلة المطالب لكل فرد عراقي منطلقاً من كينونة التوظيف الآني المتحيز للكل المتجرد من الأنانية الفردانية، وتكثيف القوة الرمزية المتأصلة في الذهنية المجتمعية المغايرة للذهنية الوقتية أو الرجعية التي فُرضت اكراهاً، فهنالك آلية احياء وتجديد ذاتي، أي عملية تحول نحو هدم وخلق بشكل مستمر ودوري، ولكون السلمية هي الشِرعة البراغماتية التي حاول البعض نكرانها وشيطنتها، كان لابد من تحفيز وإعادة التوليف البنيوي الذهني للمجتمع رمزياً ثم تأهيله لإعادة تقييم وتنظيم حياته المادية وفق حركية عفوية تعيد إحياء الآصرة المجتمعية وتهز وجدانه، فتموضعت الفعاليات الاحتجاجية حول شكلانية اجتماعية تكاد تجسد رابطة حيوية استثنائية لتحقيق تمثلات اجتماعية حية تؤسس لقنوات استيعاب بنى انثروبولوجية جديدة، والمضي نحو إرساء مفهوم اجتماعي متكامل في كل جزيئياته.
ان استمرارية الحراك وان كانت بنسب متفاوتة هي نتيجة صيرورة اجتماعية واعية عبرت عن أفكار ورؤى شاملة وطموحات عالية لكافة أفراد المجتمع في سلسلة عروض اجتماعية تدلل على رسوخ فعلي لوجودها في منحنى طقسي جديد وبصيغة مطلبية متوالية، وقد أسهم الحراك بمحاولة لترويض التقاليد وإعادة تعريف مختلف للمجتمع ضمن نمذجة وتوليف جديدين، كما عبر وجود المرأة عن اتقان منطق الدياليكتك وكانت عاملاً فاعلاً محفزاً للحراك، إذ اتخذت من الحراك منصة للتحرر والاستقلال الذاتي اجتماعيا واقتصاديا وجنسياً، فضلاً عن الحفاظ على الثوابت المجتمعية الهوياتية والقيمية وترسيمها ضمن فعاليات الاحتجاج بعد عملية تفكيك عناصرها لإعادة تعريفها ومن ثم صهرها في كل واحد، مثل النقل الميكانيكي للفلكلور الشعبي وكل الفنون والآداب والمسرح داخل الساحات، وإعادة تعبئة المحتوى الاجتماعي.
يقابل ذلك حالة هيستيريا واجهتها القوى السياسية والاسلاموية في ظل التفسخ العضوي الذي بدأ يستشري في تنظيماتها، والخوف من توسيع نطاق الحراك وقاعدته الشعبية، لاسيما وان الحراك قد انتزع شرعيته منذ اول وهلة، لكن صدى المشروعية ظل متردداً متقطعا في ارجاء المحيط الاجتماعي ليس لأنه تأخر عن صوت الحيف والظلم والفقر بل لأن المجتمع قد انقسم على وطنيته ومرجعيته العقائدية، مما حدا بقوى الإسلام السياسي إلى خلق خط احتجاجي عقائدي مضاد في محاولة رتيبة لشيطنة الحراك الشعبي منذ تشرين 2019 وتخويل اتباعها ممارسة العنف ضد المتظاهرين لاحتوائهم من جهة وتحويل التركيز المجتمعي العام نحو اثارة قضايا خارجية قومية أو دينية (تكاد لا تكترث بها)، ومحاولة خطف شرعية الحراك من داخل الروح المجتمعية المتحيفة المتشبثة بأمل الاصلاح أو التغيير التي لم تشارك في النزول للساحات.
لكن تبقى إشكاليات تحويل الحراك من -محاولات- الى -تغيير جذري-، والاستقلالية عن كل انتماء للعملية السياسية أو التراتبية الاجتماعية وآلية التهيئة لفلسفة علمية وعملية تؤسس وتعيد تنظيم المجتمع، كما ان الاتيان بنموذج حكم وطني من صلب الثوران الاجتماعي سيتطلب مزيد من التضحيات والوقت والصبر، وان ديناميكيات احتواء الحراك لم تقتصر داخلياً بل متوخاة ومدروسة من قبل الأطراف الإقليميين والدوليين وضرورة حماية مصالحهم الحيوية ضمن موازين القوى والاستراتيجيات في المنطقة لتحجيم الحراك دون التطور إلى مرحلة أكبر ونطاق أوسع.
وان خيار المشاركة السياسية بالمرحلة الحالية قد يكون محفوفاً باحتمالية الفشل أو فقدان المصداقية الشعبية، ففي ظل هذه الهرمية التسلطية والدوغمائية لن تُسترد حقوق الشعب والشهداء مالم يحدث تغيير فعلي، وعلى السلطة الحالية ان تعيد النظر وبجدية في إحقاق العدالة واتخاذ إجراءات حازمة لفرض القانون ضد المجاميع الخارجة عنه التي تنتهك حقوق المجتمع والسيادة، وأخيراً لابد من تفكيك الروابط والقوالب التقليدية في خيالنا وأفكارنا وعلاقاتنا وتقديم الانتماء المركزي للوطن على الانتماء الفرعي لنحيا بكرامة وسلام.
اضف تعليق