غياب الدينامية الاجتماعية يعني وجود مجتمع بلا روح مجتمع متقاربة أجسادهم ومتباعدة قلوبهم ونفوسهم، مجتمع يتغافل عن أعدائه الخارجين وينشغل صبح مساء بمنافسيه الداخليين، مجتمع يصرف الأموال الطائلة على استهلاكه المحموم دون أن يفكر بتطور اقتصاده الانتاجي، مجتمع فاقد للهدف والمعنى السامي للحياة. قوة المجتمع لا تقاس...
ومن هنا فإن المقصود بالدينامية الاجتماعية أيضاً هو توفر الحركة الاجتماعية في كل الاتجاهات على معنى سام وأهداف مرسومة، ودون ذلك تبقى الحركة الاجتماعية عشوائية-فوضوية
تتعدد العوامل والأسباب المفضية إلى ضمور وغياب الدينامية الاجتماعية، إذ أن هذه الظاهرة مركبة ومعقدة، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال، أن تكون وليدة عامل أو سبب واحد فقط فهي ظاهرة صنعتها العديد من العوامل والأسباب، وامتزجت مع بعضها، بحيث أضحت ظاهرة غياب الدينامية والفعالية الاجتماعية منعكسة في كل أبعاد الحياة الاجتماعية، فغياب الدينامية الاجتماعية له أسبابه المتعددة فمنها ما يرجع في حقيقته إلى تحلل الفكرة الوطنية وانفجارها من الداخل، من جراء التوترات الاجتماعية والثقافية، التي تعومل معها في الكثير من بلدان العالم الثالث بأدوات عنيفة وقهرية، مما أدى إلى اقصاء العديد من القوى الاجتماعية. وتحول المجتمع إلى مراكز قوى مناقضة كل قوة تسعى نحو تقويض القوة الأخرى، حتى لو كان هذا التقويض يكون على حساب أسس المجتمع وبنيته التحتية.
ومنها ما جاء من جراء تفاقم الهيمنة الغربية المادية والفكرية، وتحكمها بمصير الشعوب والمجتمعات مع ما تحمله هذه الهيمنة من مظاهر الاستلاب والمسخ واهتزاز الشخصية الوطنية والعقدية، ومن شعور متعاظم بخطر الانقسام والاقتتال الموصل إلى أزمة الهوية وغياب البوصلة النظرية الواضحة الموجهة إلى المجتمع في حركته الداخلية وعلاقاته الخارجية.
ومنها ما يعكس أزمة اجتماعية-اقتصادية عميقة، وهي عبارة عن التدهور المتواصل في مستويات المعيشة وتفاقم التفاوت الطبقي، ومن نشوء جماعة بشرية قليلة العدد تحتكر كل الامكانات والثروات وإلى جانبها جماعات شعبية مهمشة في أحياء الصفيح وأحزمة البؤس من دون أمل ومن دون مستقبل. هذا المزيج من العوامل والأسباب أدى ويؤدي باستمرار إلى تدهور الحياة الاجتماعية والمدنية، وشيوع حالات من القلق الخطير التي تؤدي إلى العبثية والعدمية والتحلل من المسؤولية مهما كان نوعها أو شكلها.
وفي الاتجاه الثاني تفاقم مظاهر النقمة-العنيفة من هذا الوضع، وبالتالي الانخراط في تشكيلات وممارسات تخريبية-عنفية، إما لدواع اقتصادية بحتة أو لانسداد الآفاق الطبيعية - للعمل لدى هؤلاء الأفراد أو التشكيلات مما دفعهم إلى فقدان المعايير والقيم الروحية والفكرية الناظمة لتصرفات الإنسان والمحددة لقيام كيان اجتماعي واحد.
وأن ما تعيشه مجتمعات العالم الثالث اليوم من مشكلات وأزمات هي من جراء هذه الحالة.
وبالنتيجة أن الصيغ المستخدمة لعملية التحريك الاجتماعي، أصبحت تقليدية وذات جدوى، محدودة، لذلك ينبغي البحث عن صيغة اجتماعية، جديدة تحقق دينامية مجتمعية جديدة.
المقصود بالدينامية الاجتماعية:
وقبل أن نستطرد في بيان عناصر الصيغة الاجتماعية الجديدة من الضروري توضيح مقصودنا من مصطلح الدينامية الاجتماعية عبر النقاط التالية:
1) الحركة الذاتية: إن معيار الدينامية الاجتماعية الأساس هو وجود الديناميكية الذاتية، إذ أن المجتمع الذي يفقد حوافز الحركة الذاتية، لا يمكن أن نطلق عليه أنه مجتمع دينامي. فالحركة الذاتية هي مقياس الدينامية ودونها تبقى النشاطات والفعاليات الاجتماعية رهينة بظروفها ودوافعها الخارجية.
كما أنها المحركة الحقيقية للعملية الاجتماعية والتاريخية، لأنها تنطلق من امكاناتها وتتحرك بحوافزها وفق أهداف محددة وتاريخية.
2) العلاقة العقلانية مع التكنولوجيا الحديثة: مما يلفت النظر حقاً ان المجتمعات الإنسانية بفعل التكنولوجيا والتقنية الحديثة أصبحت تتمتع بطاقات هائلة، إلا انها في "الغالب" في ذات الوقت تعاني من كل أشكال غياب الدينامية والفعالية الاجتماعية.
وهذا يدفعنا إلى القول إن طبيعة العلاقة التي تحكم المجتمع مع الطاقة الحديثة، هي طبيعة لا عقلانية لهذا فإن بداية الدينامية الاجتماعية هي تأسيس علاقة عقلانية مع الطاقة الهائلة المتوفرة في المجتمع من جراء التكنولوجيا والصناعات الحديثة.
والعلاقة العقلانية هي قبل كل شيء قدرة المجتمع على استيعاب أسرارها وعلى تحقيق التطور الدائم وفق حوافز ومتطلبات ذاتية. وينبغي أن ندرك أن وصول المجتمع إلى مصاف متقدمة على المستوى الصناعي والاقتصادي، لا يعني بالضرورة أن علاقته مع المعدات والمنتجات الحديثة علاقة عقلانية. وهذا ما حاول أن يثبته (هربرت ماركوزو) في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" إذ يؤكد أن المجتمع الصناعي المتقدم، هو برمته مجتمع لا عقلاني، لأن تطور انتاجيته لا يؤدي إلى تطور الحاجات والمواهب الإنسانية تطوراً حراً، بل على العكس من ذلك تماماً، فإنتاجيته لا يمكن أن تستمر في التطور على الوتيرة الراهنة إلا إذا قمعت تطور الحاجات والمواهب الإنسانية وتفتحها الحر، شأنها في ذلك شأن السلم الذي ينعم به المجتمع المعاصر، إذ أن هذا السلم غير متحقق إلا بفضل شبه الحرب الشاملة المنذرة دوماً بالاندلاع.
فالعقلانية في علاقات المجتمع مع معدات التقنية الحديثة، هي التي تجعله يستفيد منها أقصى استفادة دون أن تأسره أو تزيف من حاجاته ومتطلباته الملحة.
وثمة صلة عميقة بين الدينامية الاجتماعية والتقدم، إذ ان التقدم في محصلته النهائية هو ثمرة الدينامية الاجتماعية، فلا تقدم إنساني بدون دينامية اجتماعية وحيوية إنسانية، تتحرك وتعمل وتكافح في سبيل تحقيق قفزات نوعية في مسيرة المجتمع.
وأن التوتر بين الراهن والممكن، يتفاقم ويستفحل مادام المجتمع بعيداً عن الدينامية الاجتماعية، فهي الجسر الذي ينقل المجتمع إلى ممكنه وأهدافه وتطلعاته.
3) وضوح الغايات والأهداف: ثمة تمايز جوهري بين المجتمع الذي تتوفر في حركته حالة الدينامية والفعالية، والمجتمع الذي يفتقد هذه الحالة. وهذا التمايز يتجسد في أن المجتمع الحي يتحرك وفق خريطة واضحة من الأهداف والوسائل الموصلة إليها ويسير وفق معنى عام بحيث يستوعب هذا المعنى كل نشاطات وطاقات المجتمع في كل الاتجاهات والآفاق.
ومن هنا فإن المقصود بالدينامية الاجتماعية أيضاً هو توفر الحركة الاجتماعية في كل الاتجاهات على معنى سام وأهداف مرسومة، ودون ذلك تبقى الحركة الاجتماعية عشوائية-فوضوية، تبذل الكثير من الجهود المبعثرة، دون أن تصل إلى تطلعاتها أو أهدافها، إذ أن السير على غير هدى لا يزيد المجتمع إلا ابتعاداً عن غاياته وأهدافه. ولغياب الدينامية الاجتماعية، مؤشرات عدة منها: سيادة الفكر السلبي وغياب المبادرات الجمعية المتجهة إلى التطوير والبناء، وسيادة روح ومنهجية التثبيط وفقدان الثقة بالذات والاستقالة من المسؤوليات والتهرب منها وسيادة روح الارتجال والانفعال وضمور فضيلة التخطيط وتحديد الأهداف والمقاصد.
وجماع القول: ان غياب الدينامية الاجتماعية يعني وجود مجتمع بلا روح مجتمع متقاربة أجسادهم ومتباعدة قلوبهم ونفوسهم، مجتمع يتغافل عن أعدائه الخارجين وينشغل صبح مساء بمنافسيه الداخليين، مجتمع يصرف الأموال الطائلة على استهلاكه المحموم دون أن يفكر بتطور اقتصاده الانتاجي، مجتمع فاقد للهدف والمعنى السامي للحياة. من هنا فإن قوة المجتمع لا تقاس بالعوامل المادية، بل بمدى توفر الروح الخلاقة والفاعلية الذاتية في المجتمع. والمجتمع الـــــذي يفقد هـــــذه الأمور تتحول إمكانــــــــاته المادية من نعمة إلى نقمة مـــــــن جراء تخبطه، وعــــــــــدم قدرته على امتصاص آثار هــــــذه الامكانات.
فالدينامية الاجتماعية، هي المطلب الملح، الذي ينبغي توفير عناصرها وثقافتها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حتى يتسنى لنا الانخراط في العالم ونحن نعيش الحيوية والنهضة في كل المجالات والحقول.
اضف تعليق