ثمة ضرورة دينية وحضارية لإثارة القضايا والعناوين التي لها مدخلية مباشرة في حياة الإنسان المعاصر، ونبحث جميعا من مختلف مواقعنا لصياغة رؤية تفيد حاضر الإنسان ومستقبله. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي أهمية أن تتضح رؤيتنا وفهمنا للآخر الديني، ولكننا نود أن نقول أن وضوح الرؤية والفهم للآخر...
ثمة علاقة عميقة وصميمية تربط الأديان التوحيدية الكبرى في نصوصها التأسيسية بالإنسان. إذ أن كل التشريعات الدينية تتجه إلى الإنسان موضوعا وغاية. وحتى في الحقب التاريخية واللحظات الزمنية التي تراجع فيها موقع الدين في الحياة العامة، فإن السعي والكدح الذي يبذله المتدينون أفرادا وجماعات، يتجه إلى إعادة الإنسان إلى الله، بصرف النظر عن طبيعة القضايا الجزئية والتفصيلية التي تتمايز من دين لآخر فيما يرتبط وتجسيد الوجدان الديني في حياة الإنسان الخاصة والعامة.
وبمقدار ما ينفتح علماء الأديان ومتخصصيه على القيم والمبادئ الكبرى التي صاغتها النصوص التأسيسية للأديان، بذات القدر يتم الانفتاح على الإنسان وقضاياه الملحة. لذلك فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى في مشروع صياغة رؤية ومشروع ودور الدين في بناء الإنسان، تتجسد في انفتاحنا وتواصلنا مع النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية، التي تختزن مضامين إنسانية سامية. وذلك لأن استغراقنا في القضايا اللاهوتية مع أهمية بحثها والتحاور بشأنها، إلا أنها تنتمي إلى حقل غير الحقل الذي ينبغي أن نبحث عن دور الدين في بناء الإنسان.
فالحقل الثقافي الذي يتواصل بفعالية مع القيم والخيارات الكبرى للأديان، هو الحقل والمدى الفكري والإنساني الذي يوصلنا إلى بلورة وصياغة رؤية مشتركة لدور ووظيفة الدين في بناء الإنسان.
ولعلنا لا نأت بجديد حين القول في هذا الصدد، أن نقل الحوار بين الأديان من دائرة اللاهوت إلى دائرة الثقافة بكل أبعادها، هو الذي يضمن للجميع حوارا معاصرا وبعيدا عن كل العناوين والقضايا التي تم تجاوزها من قبل كل المجتمعات والأمم. فالتفكير في القضايا البائدة، والتي لا أثر ملموس لها في حياة الإنسان المعاصر، يعرقل مهمة الدين في بناء الإنسان في مختلف الأبعاد والجوانب.
لذلك ثمة ضرورة دينية وحضارية لإثارة القضايا والعناوين التي لها مدخلية مباشرة في حياة الإنسان المعاصر، ونبحث جميعا من مختلف مواقعنا لصياغة رؤية تفيد حاضر الإنسان ومستقبله. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي أهمية أن تتضح رؤيتنا وفهمنا للآخر الديني، ولكننا نود أن نقول أن وضوح الرؤية والفهم للآخر تبدأ من إثارة القضايا الإنسانية المعاصرة والملحة، والبحث عن إجابات وحلول على قاعدة الفهم والتواصل المتجدد للقيم والمبادئ الدينية. بحيث تتحرك كل الامكانات والقدرات لحماية الإنسان وصيانة حقوقه ومكتسباته بصرف النظر عن انتمائه الديني.
وإذا كنا نتحسس من بعضنا البعض في دوائر الدعوة أو التبشير فإن التزامنا بالإنسان مطلقا وبقضاياه الملحة هو الذي يوفر الجوامع المشتركة ويدفعنا باتجاه العمل المتعدد الجوانب بما يفيد حياتنا المعاصرة.
وفي سياق بيان دور الأديان في بناء الإنسان، نود أن نثير الكلمات التالية:
1- الكلمة الأولى:
حين تفقد الأمة (أية أمة) شخصيتها فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة، وإن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة والأمل حين يعشق الفلاح أرضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج، فهو لا يحب التراب كمادة جامدة، بل كرمز للأمة التي عاشت ولا تزال عليها. وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه، وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية، فإنه لا يتعامل مع الحديد، إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون منها. إن حبلا قويا يشد هؤلاء وغيرهم إلى بعضهم، وروحا واحدة تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل. ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة، ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعهم، فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا، وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة.
والسؤال: ما هي شخصية الأمة وبأي شيء تتكون؟
الجواب: إن وحدة القيم والثقافة، والاشتراك في الهدف والتاريخ، هي حدود شخصية الأمة. فمن دون الثقافة ذات القيم السامية، التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها، يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة. ومن دون الهدف، ذي التجربة التاريخية، الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات الأمة، ينهار الجدار المادي لبناء الأمة.
لهذا كله ومن أجل أن تشارك الأديان في بناء الإنسان وتهذيب نوازعه، من الضروري التأكيد على أصالة القيم ونعني بها ترسيخ الإيمان والحق والحرية والعدالة الاجتماعية.
إننا نخسر كثيرا بتخلفنا الذي دام أكثر من اللازم، وليس من المعقول الاستمرار فيه. ولكن، كيف نفتح أبواب الحضارة على أنفسنا؟
في تقديري إن أية حضارة لا تبدأ إلا بتكامل عاملين: العقل والروح، الفكر والإرادة وبالتالي العلم والإيمان.
والإيمان بوحده لا يكفي، إنه كطائر بجناح واحد، كرجل يملك القوة، يملك الرجل واليد والنشاط، ولكنه لا يملك العين. لهذا فإننا جميعا حينما نحكم العقل والمنطق السليم، يسهل علينا التعاون والمشاركة الفعالة في بناء الإنسان. «الأمر الذي قد يتيح للشعوب المستضعفة أن تكتشف في الدين الحركي معنى الحرية والعدالة، فتلتقي بالإيمان به من خلال جهاده السياسي في خط المواجهة للظلم العالمي كله، ليقف المسلم ضد المستكبر حتى لو كان مسلما، ويقف المسيحي ضده حتى لو كان مسيحيا، فذلك هو الذي يمثل اختصار المسافة الطويلة للوصول إلى عقل المستضعف، لأن الكثيرين من الناس يفهمون الإيمان من خلال المشكلة التي يتخبطون فيها أكثر مما يفهمونه من خلال المفردات اللاهوتية التي يفكرون فيها، لأن أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه، كما أن أقرب الطرق إلى القلب قضاياه وحاجاته الطبيعية الملحة في الحياة».
ولعلنا هنا لا نبالغ حين القول: أن البابا بولس السادس استطاع أن يحقق للروح المسيحية الكثير بنشاطه السياسي في حركته من أجل القضايا الإنسانية العامة في أكثر من موقع أو موقف. وكل شخصية دينية سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية، تستطيع أن تحقق الكثير حينما تتبنى من موقعها الديني القضايا الإنسانية، وتعمل بوسائل مختلفة للدفاع عن الإنسان والشعوب المظلومة والمضطهدة. فالأديان دائما بما هي قيم ومبادئ ومثل، هي ضمير الناس وجسرهم للتعبير عن إنسانيتهم ولحشد امكاناتهم لمقاومة كل ما يسيء إلى إنسانية الإنسان.
وبناء الإنسان بحاجة بشكل مستديم إلى قيم ومبادئ، تزيل ركام الجمود والانحطاط، وتحفز قيم الخير والفعالية، وتبرز البعد الإنساني بكل تجلياته في حياة الإنسان. ولعل هذا هو الدور والوظيفة الأولى التي يقوم بها الدين في مشروع بناء الإنسان.
ومهمتنا جميعا ومن موقع إيماننا الديني، أن ننفتح على قضايا الحرية والعدالة والمساواة للإنسان، ونتحرك بمحاولات ومبادرات مستديمة للوصول إلى الكلمة السواء في كل القضايا التي تهم الإنسان واستقرار وسعادة البشرية جمعاء، ولنحفز الفضاء الإنساني بأسره صوب المزيد من الانفتاح على ما لدى كل منا من قيم روحية وأخلاقية وإيمانية مشتركة.
2- الكلمة الثانية:
إن بناء الإنسان وتنمية مداركه ومواهبه، لا يمكن أن يتم إلا بتنمية دوافع الخير والصلاح والمحبة في نفس الإنسان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه محبة للناس هو الذي يمارس فعل الخير والتنمية في الفضاء الإنساني، والإنسان الذي يختزن في عقله قيم الحوار والالتزام، هو الذي يحوّل حياته إلى شعلة من النشاط والحيوية بما يفيد الإنسان الفرد والجماعة.
والدين بما هو منظومة قيمية وأخلاقية وإيمانية، هو الذي ينمي في الإنسان دوافع الخير والصلاح، ويدفعه نحو تجسيد هذه القيم في الواقع الخارجي. لذلك فبمقدار تمكن قيم الإيمان من نفس الإنسان، بذات القدر يمارس الخير والمحبة للجميع. فالإيمان ليس هروبا من الحياة أو انزواءً وانكفاءً عن قضايا الإنسان والتزاماته المتعددة بل هو حركة في العقل.
«فكل ما في الوجود لا بد من أن يكون للعقل دور في رصده، وإن لم يملك هذا الأخير وسائل البحث في بعض امتداداته، فالوجود لا بد أن يكون عقلانيا، وإن كان العقل لا يتمتع بالقدرة على معالجة ما في داخله من مفردات وتعقيدات تخرج عن دائرة الحس والمألوف. فنحن ندرك الله بالعقل، ولكننا لا نملك الوسيلة للبحث في ذات الله.. في البرهان الديني نحن نرصد الغيب بالعقل حقيقة ووجودا، ولكننا لا نعرف ما وراءه وكنه وجوده، تماما كما هي الفلسفة، قد لا تستطيع من خلالها معرفة كنه الجوهر، ولكنك تستطيع أن تشير إليه.
فالإنسان مؤمن بما يعقل، وعلى هذا الأساس كان لا بد له من خوض تجربة الشك، من أجل الوصول إلى اليقين، وذلك يتطلب رحلة طويلة في عالم الصراع الفكري الداخلي، حيث تتجاذب الإنسان الاهتزازات من خلال تناقض الاحتمالات، وتضاد الأفكار، وتعارض الاتجاهات، التي تتم مناقشتها وجدانيا وعقليا بكل موضوعية وانفتاح، ليعرف الحق من الباطل، وينتقل من الجهل إلى العلم».
ويقول تبارك وتعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. وقال عز من قائل {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير}.
فالتفكير والتأمل في ظواهر الكون ومتغيراته وأسرار الإنسان وخباياه، هو الذي يقود إلى تعميق مفهوم الإيمان في نفس الإنسان. وبذلك يتحول الدين والإيمان بقيمه ومبادئه ونظمه، حافزا للعمل والبناء والعمران. لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تحث وتحض على التفكير والتأمل حتى يتحرر الإنسان من كل القيود والضغوطات. إذ قال رب العزة {قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}.
وفي ذات الوقت هدد القرآن الحكيم أولئك النفر الذين يحتكرون المعرفة ويكتمون ما أنزل الله من البينات باللعنة الإلهية. إذ يقول تبارك وتعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
الحوار الموضوعي
من الطبيعي القول إن نبذ احتكار المعرفة وحده لا يكفي من أجل خلق الشروط الضرورية لبناء الإنسان على أسس الإيمان والحرية والعلم. لذلك يؤكد القرآن الحكيم في العديد من آياته على قوة العلم وسلطان الحجة. فالجدال ليس هدفا بذاته، لذلك من المهم أن يستند إلى قوة العلم والحجة والبرهان. يقول تعالى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}.
وبهذا تتأسس كل شروط ومرتكزات البناء السليم للإنسان. فمشروع البناء الحقيقي للإنسان، يبدأ من نبذ احتكار المعرفة وكتمان الحق، وحث العارفين والعلماء على نشر العلم والمعرفة وتعميمهما والاحتكام الدائم إلى الحجة والبرهان والخروج من كل دوائر الجدل الذي يبتعد عن الحقائق أو لا يستهدف الوصول إليها. وتوج الباري عز وجل كل هذه القيم والمرتكزات بضرورة اتباع أسلوب اللين والكلمة الطيبة والطرق المرنة التي تفتح القلوب على الحق وتقرب الأفكار إلى دائرة مفاهيمه وأحكامه. إذ يقول تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ٭ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ٭ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
فالأساليب العنفية والانفعالية في التعامل مع الآخرين، ليست من الإسلام في شيء، وهي أساليب تهدم ولا تبني. ووظيفة الأديان في عمليات البناء الإنساني، تنطلق حينما يتحرر الإنسان من كل أساليب العنف والنبذ والإلغاء التي قد يستخدمها البعض باسم الدين.
وحوار الأديان بكل مستوياته، من الأهمية أن يأتي في سياق الحوار الموضوعي، الذي لا يهدف إلى الانحباس في القضايا اللاهوتية، وإنما تأكيد وتعميق أسس ومرتكزات مشاركة الأديان في بناء الإنسان وتطوير الحياة المعاصرة في أبعاد القيم والمبادئ والجوانب المعنوية التي يحتاجها الإنسان الفرد والجماعة في مختلف مراحل حياته.
وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية في هذا المجال وهي: حينما تتجسد قيم الإسلام في شخصية الإنسان المسلم، وتتجسد قيم المسيحية في شخصية الإنسان المسيحي، وتتجسد قيم اليهودية في شخصية الإنسان اليهودي، يتحرر الإنسان من كل القيود والكوابح التي تحول دون تقدم الإنسان ورقيه المادي والمعنوي.
3- الكلمة الثالثة:
أفق الرسالات الدينية السماوية رحب وواسع في نصوصها التأسيسية وخياراتها الكبرى، إلا أن بعض الأتباع ولعوامل عديدة ذاتية وموضوعية يغلقون الأفق على الآخرين، ويضيقون الوسع الذي تتميز به النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية الكبرى.
لذلك من الأهمية التفريق بين الدين المعياري والذي هو مجموع القيم والمبادئ العليا التي جاء بها الدين، وبين الدين التاريخي والمُعاش، وهو تلك التجربة الإنسانية التي عملت على تجسيد قيم الدين أو تسمت باسمه. وفي تقديرنا أن فض الاشتباك والالتحام بين المعياري والتاريخي يساهم في تجلية وتظهير دور الأديان السماوية في بناء الإنسان. ولعلنا لا نجانب الحقيقة حين القول: إن الدين التاريخي في بعض حقبه التاريخية، (وهذا الكلام ينطبق على كل الأديان) كان دوره سلبيا وسيئا تجاه الإنسان وقضاياه الجوهرية. فحينما يخضع رجل/عالم الدين كفرد أو مؤسسة للسلطان السياسي الغشوم، ويسوغ له كل أعماله وتصرفاته، فإن هذا الدين المُعاش والممارس أضحى كابحا للإنسان ومانعا من نيله حقوقه وحريته.
لهذا فإن مرجعيتنا في بيان دور الأديان في بناء الإنسان، ليست التجربة التاريخية بكل فصولها ومحطاتها، وإنما بعض الحقب المجيدة بإطارها ومرجعيتها القيمية التي مارس فيها الدين دوره التاريخي والحضاري المأمول. لهذا فإن التحرر من عبء التاريخ والانعتاق من أسْر الواقع وبعض قواه السياسية المحلية والدولية والتي تسعى لتوظيف حوار الأديان توظيفا سيئا وضيقا، والتفاعل الخلاق مع الأديان في نصوصها التأسيسية وحقبها التاريخية المجيدة فحسب، هو الذي يساهم في بلورة المناخ المواتي لكي تمارس الأديان دورها في بناء الإنسان والمجتمعات.
وإننا نعتقد أن العمل على اكتشاف وتظهير الينابيع الإنسانية العميقة لكل الأديان السماوية، سيساهم بشكل كبير في بلورة خيارات إنسانية أكثر عدلا ومساواة وحرية للبشرية جمعاء. وإن كل محاولات الانحباس دون البعد والروح الإنسانية، سيكلف البشرية الكثير من العناء والشقاء. فالمجتمعات الإنسانية اليوم، تحتاج إلى الدين في بعده الإنساني والأخلاقي والروحي، وإن الانكفاء دون تجلية وتظهير هذه الأبعاد من الأديان السماوية، يعني المزيد من الحروب والصراعات المفتوحة والدمار الذي يهدد الإنسان فرداً وجماعة في أمنه وكرامته وضرورات عيشه.
لذلك فإن المهمة الأساس في مشروع حوار الأديان، ليست الدخول في نفق السجالات اللاهوتية والأيدلوجية، وإنما العمل على تظهير كل القيم الإنسانية والحضارية التي تختزنها الأديان السماوية، وإعمال العقل وإطلاق حرية التفكير من أجل بناء نظام علاقات بين مختلف المجموعات الدينية، على قاعدة العدل والحرية وحقوق الإنسان.
فالانتماء الديني ليس مدعاة للانتقاص من حقوق الإنسان أو التقليل من فرصه في العدل والحرية. فالحقوق مصانة للجميع والفرص متاحة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو القومية. فالتواصل بين المختلفين والمتغايرين دينياً، لا يتم عبر العقائد، وإنما عبر الثقافة التي تدفع جميع المكونات إلى الحوار والتفاهم ونسج المشتركات وتنميتها.
والحوار بكل مستوياته لا يعني مغادرة موقعك الديني أو الفكري، وإنما يعني اكتشاف المساحات المشتركة والانطلاق للعمل معا منها.
إن المنظومة القيمية الكبرى للأديان التوحيدية، تدفع الإنسان لكي يكون مباركاً، أي نافعاً للناس، بحيث لا تتجمد حياته في ذاته، ولكنها تمتد إلى الناس الآخرين وتتحرك في حياتهم.
والقرآن الحكيم يحدثنا عن هذه القضية المهمة (النفع المستديم للناس) من خلال ذكر قصة السيد المسيح (عليه السلام). إذ يقول تبارك وتعالى {قال إني عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبيا ٭ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ٭ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا}.
والبركة التي تتحدث عنها هذه الآيات ليست شكلية، وإنما هي ممارسة وفعل متواصل. فهي تتحرك من خلال فكر الإنسان وجهده وطاقته في مستويات الحياة المتعددة. فالنفع والخدمة، هما عنوان الدين في علاقته بالإنسان. ولعلنا لا نذهب بعيدا حين القول: إن دور الأديان في بناء الإنسان، لا يخرج في مضمونه وجوهره، عن هذه الآيات التي توضح كيف جعل الله تعالى السيد المسيح (عليه السلام) مباركا أينما كان. فحينما يكون الإنسان في سلام مع الله، يتحرك في أطوار حياته في رحلة السلام، مع نفسه، ومع الناس. وبهذا تكون حياة الإنسان وفق الرؤية الدينية محبة وسلاما وخيرا وبركة للآخرين.
اضف تعليق