بالضرب والقسمة، هناك الآف من الفقاعات التي صنعتها النخب السياسية. فقاعات لها حجم طبيعي، وبعضها واقعي، وآخر كاذب. تضخم أمور عادية أو تصغر أمور كبيرة، يعيش فيها المواطن داخلها فلا يرى ما يحدث خارجها، ولا الأشياء بحجمها. فقاعات تنشأ وفقاعات تنفجر، والضحايا بالملايين تعاني الجوع والفقر والتهجير وفقدان الأمل...
منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا، ولدت الديمقراطية في أثينا التي كان سدس سكانها من العبيد والأرقاء، والتي حلم فلاسفتها بجمهوريات تنعم بالرفاهية، والرأي والرأي الآخر.
ومنذ عام 2003 ولدت ديمقراطية في بغداد في أرض بور وخراب وسط فقاعة اسمها (الموت لأمريكا)، وتحت ظل نخب سياسية دينية باعت الدين والمقدسات لبريمير منذ أن وطأت أقدامهم أرض العراق، وتوكئت على المحتل في حمايتهم وهندسة حياتهم المترفة بالمال والسلطة، فأصبحوا في ظل دستور المحتل، حماة الديمقراطية ورجالها. فاستنبتت أول ديمقراطية في العراق من بذور التدين الكهنوتي الخليطة من البهارات الإيرانية وعطر الفكر الأصولي الإسلامي القديم، وعنجهية الراعي الرسمي الأمريكي، لتنتهي إلى تأسيس ديمقراطية عناصرها الكيمائية بلا طعم ولا لون، ومظهرها الخارجي براقة خادعة، وباطنها تلفيقي يتجذر فيه الاستبداد والدموية.
لن يصدق أحدا اليوم، بأن الديمقراطية عندنا تمشي بأرجل سليمة، لأن مهندسها الأجنبي ذهب عنا، وترك لنا عمالا مأجورين يتقاتلون على وهم زراعة الديمقراطية في بيئة الفساد والخراب، وفي ظل دستور مفخخ بالمحاصصة الطائفية، وبهوس اقتناص الفرص والمصالح، وتوزيع غنائم الأرض والثروات والمناصب (هذا لك وهذا لي). ديمقراطية مضحكة تنطلق من بيوت زجاجية يحكمها الزعيم الأوحد من الوراثة العائلية أو سلطة الدين، حيث الفردية في صنع قرار الحزب، والهوى والغرام بالطائفة والولاء للأجنبي.
الديمقراطية عندنا تعمل بالمقلوب، حيث حكم قادة الأحزاب والمليشيات وليس حكم الشعب، وانتخابات يحرسها السلاح المنفلت والمال الحرام، وحرية تعبير محروسة بقاتل مدجج بسلاح كاتم الصوت، ومواطنة بلا مواطن، لأن الجميع في خط واحد من المصيبة والفقر. أما القانون فهو مريض بالزهايمر، وغالبا ما يتذكر حقوق الناس، وسجون المغيبين، وشهداء الموقف الوطني.
أنه البلاء الديمقراطي حيث النخب السياسية يهيمن عليها الكذب والخداع والشعوذة والغيبيات وثقافة الكراهية وإلغاء الآخر. نخب سياسية جُبِلْت على تفاهة الفكر، وسادية القتل تحت شعار (الدم قراطية). والنتائج كارثية مدمرة تفوق ما تفعله الزلازل.
العراق السياسي متوالية من الفقاعات التي لا تحكمها قوانين فيزيائية. فقاعات بألوان مختلفة تظهر بسرعة وتختفي بسرعة. فقاعات سياسية واقتصادية واجتماعية. لكن الأكثر ضراوة هي الفقاعات السياسية التي صنعتها الأحزاب التي تحكم الشعب باسم (الديمقراطية)، وكأنها قُدَّتْ من صخر صوان، حيث الوعود الطليقة، والآمال المجنحة، وخطف الأبصار لجمال البالونة الملونة الجاذبة، وبهاءها الرائق اللحظي، لكنها في لحظات الانفجار، عندما تلامس الواقع المزرى، بما فيه من خراب وتفاهة تصبح شظايا قاتلة، وتظهر الحقيقة (باسم الدين باعونا الحرامية)، مثلما تصبح أيضا كذبة كبيرة، وسراب كاذب، وخداع بصري، وهلوسة قراطيه!
بلد يمتلئ بالفقاعات الطائفية والعشائرية، حيث فقاعات سياسية تصطدم بفقاعات شعبية، ويختفي في البلد قانون الجاذبية الأرضية، فالكل معلقون بين السماء والأرض، ويسيرون بطريقة مائلة، والأشياء تتدحرج صعودا. وبمنطق الفيزياء فأن (الديمقراطية) عندنا فقدت قدرتها على جلب الأشياء نحوها، وتفاحة (نيوتن) صارت من الماضي، لأنها فقدت اليوم سر سقوطها بفعل انعدام قوة الجاذبية، مما سببت لنا هذا الخراب السياسي والمجتمعي، وخلقت لنا سحابات الأغبرة الحزبية الكريهة، وغازاتهم السامة. فما عادت الجاذبية الديمقراطية تجذب الناس لها. لأنها تخاف من السقوط الأبدي، وفقدانهم للجاذبية الأرضية.
يبدو أنه لا سبيل من الفرار من قضبان الفقاعة الخوارزمية السياسية المترصدة لحركاتنا وسكناتنا، فالإرادة مسلوبة في فقئ الفقاعة، لأننا مع الأسف شاركنا في نفخ الفقاعة، وفي اتساع حجمها لتصبح علينا وبالا، وتضيق جدرانها يوما بعد يوم على صدورنا، ليصبح النجاة من الفقاعة عَصِيًّا، وفقؤها مستحيلا، والوعي بها شعار اليائسين. حتى وصلت الحالة إلى إن المواطن بدأ هو الآخر في صنع فقاعة آمنة له يعيش فيها مَحْمِيًّا من فيروسات الأحزاب السياسية، وبطشها ومظالمها.
بالضرب والقسمة، هناك الآف من الفقاعات التي صنعتها النخب السياسية. فقاعات لها حجم طبيعي، وبعضها واقعي، وآخر كاذب. تضخم أمور عادية أو تصغر أمور كبيرة، يعيش فيها المواطن داخلها فلا يرى ما يحدث خارجها، ولا الأشياء بحجمها. فقاعات تنشأ وفقاعات تنفجر، والضحايا بالملايين تعاني الجوع والفقر والتهجير وفقدان الأمل.
الجميع ينتظر الانتخابات القادمة، بعد مهزلة من الضجيج والثورات والمعارك بالأيدي والأرجل، والمماحكات البرلمانية والسياسية، وشعور كاذب بأننا سندخل من بوابة العصر الديمقراطي، ويتحقق حلم الفقراء بحصة تموينية غير مسروقة، وبراتب يخلو من ضريبة وزير المالية المبجل، وجواز عالمي غير قابل للرفض من الدول، وموظف يحيا دون كوابيس الاستقطاع، ومتقاعد ينام، وتحت وسادته بطاقة تأمين صحي.
وأحلام شبابية وردية بأن جميع العاطلين سيدعون إلى مراكز التوظيف لأداء خدمة العلم والوطن.
حار العقل العراقي وثار وحط وطار قبل أن يدرك أن (الديمقراطية أفضل النظم السياسية السيئة) حسب تعبير البريطاني ونستون تشرشل. وأن (ديما) (قراطية) العراقية هو حاصل الجمع بين خلطة (العشيرة قراطية) و (التزوير قراطية)، و(الطراطير قراطية). والنتيجة تساوي (فقاعة قراطية) مؤقتة ستنفجر يوما بوخزة دبوس صغير وتختفي إلى الأبد!
اضف تعليق