يصادف بعد أيام قليلة مرور ثمانية عشر عاما على سقوط النظام الاستبدادي بزعامة صدام حسين في عام 2003 الذي حكم العراق بقوة النار والحديد، وأتسم نظام حكمه بالدكتاتورية والتفرد بالسلطة ورهن البلد للمغامرات الشخصية التسلطية للحزب الحاكم والحواشي والعائلة وعسكرة المجتمع لعقود طويلة...
يصادف بعد أيام قليلة مرور ثمانية عشر عاما على سقوط النظام الاستبدادي بزعامة صدام حسين في عام 2003 الذي حكم العراق بقوة النار والحديد، وأتسم نظام حكمه بالدكتاتورية والتفرد بالسلطة ورهن البلد للمغامرات الشخصية التسلطية للحزب الحاكم والحواشي والعائلة وعسكرة المجتمع لعقود طويلة.
ورغم أن التغيير الإيجابي بسقوط النظام عبر طريق القوة بتشكل تحالف دولي قادته الولايات المتحدة الأمريكية في هجوم عسكري شامل، دمرت به مؤسسات الدولة وفككت به القوى الأمنية الرسمية، وأعطت الفرصة الكاملة للأحزاب وقوى سياسية معارضة من اتجاهات ومكونات مختلفة باستلام السلطة، وهي بحق فرصة تاريخية لهذه القوى خاصة النافذة منها كالقوى الإسلامية والقومية والعشائرية في تحقيق مشروع وطني يبني الدولة ويحل مشاكلها، لكن الذي حدث هو عكس المتوقع ببناء دولة ديمقراطية قوية، منذ التغيير في عام 2003 والى الآن، أي بعد قرار مجلس النواب الأول من نيسان بحل نفسه وذلك قبل يومين من إجراء الانتخابات التي وصفت بالمبكرة والمزمع إجراؤها في 10/ تشرين الأول من هذا العام، الموعد الذي حددته السلطة التنفيذية.
من المهم في أي تجربة تعتمد على المبادئ الديمقراطية لابد من الارتكاز على ثلاثة عناصر هي: التعددية الحزبية، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة القانون والحكم الرشيد، ويبدو أن العنصر الأول المتمثل بالحزبية والأحزاب السياسية التي عددا منها تشكل قبل عام 2003 والقسم الأكبر تشكل بعده بولادات جديدة وانشقاقات وما إلى ذلك، ومن دلائل ذلك أن نجاح أي تجربة لأي حزب ما يعتمد على القدرة على تقديم مشروع استراتيجي لإدارة الدولة، في حين أن هذه الأحزاب تخلت عن الكثير من مبادئها وحاولت التعايش مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في البلد، فيما زاد الأمر سوءا في تجربتها الإدارية وتورطها بالفساد وسوء الإدارة واستغلال مؤسسات الدولة من اجل الكسب غير المشروع، فتحولت بذلك من الديمقراطية الدستورية العقلانية إلى الأوليغارشية والطبقية السياسية.
وتشير التقارير الميدانية إلى أن التجربة الحزبية في العراق بعد التغيير السياسي وتصديها للمشهد السياسي انطوت على عدد من العيوب أبرزها: إن هذه الأحزاب اتسمت بكونها تمثل طوائف وقوميات وشخوص وتعبر عن مكونات مناطقية، كما أنها تعد بلا برامج سياسية ومشاريع وطنية حقيقة تحاكي هموم الناس وتعالج مشاكل الدولة إذ أنها أحزاب لبناء سلطة وليس لبناء دولة، وإن بعضها يمثل أحزابا نخبوية وليست أحزابا جماهيرية، فيحاول تلافي هذا العيب بوسائل مختلفة لا تمت للعمل الحزبي بصلة، إضافة إلى ذلك تحولت إلى أحزاب تجارية تستحوذ على الأموال والممتلكات والمشاريع، فضاعت عشرات المليارات التي كان من المفترض أن تطور من واقع البنى التحتية في البلد.
وقد قيمت بأنها أحزاب فشلت فشلا ذريعا في تحقيق حلم بناء الدولة الوطنية الديمقراطية في العراق حتى رسمت لها صورة نمطية في العقل السياسي العراقي الشعبي، وصار الحديث عن فشلها وفسادها عادة بين عموم الناس في العراق، خاصة وأن الناس في العراق ذو حس نقدي وذو اهتمام بشكل متواصل بالجوانب السياسية وأحلامهم في تغيير مستمر ببناء دولة تفوق الدول المجاورة أو تقارن بها.
هذا الأداء انعكس أيضا على واقع السلطة التنفيذية والتشريعية كون تكوينهما لا يخرج على عقلية وشخوص وسلوك هذه الأحزاب، مما يلاحظ أن سمة عدم الاستقرار وغياب الرؤى الوطنية في تقنين القوانين غائبة إلا ما ندر عن السلطة التشريعية، في حين اتسمت عموم السلطة والحكومات التي مسكت السلطة بغياب الإنجاز، وتورط الوزراء والوكلاء بصفقات فساد كبيرة تستفيد منها أحزاب وشخوص أيضا، وقد تفرعت مجالات الفساد لتشمل بيع وشراء المناصب العليا في الدولة، وظهور ما يعرف بالفضائيين أو الوظائف الوهمية، ومن مجالات الفساد تقاسم إيرادات الجمارك والضرائب المباشرة، وبيع وشراء العملات الأجنبية، وصفقات العمولات، وفساد عقود المقاولات والمشتريات إضافة إلى شراء الذمم والارتهان للخارج، وهذه الملفات أفشلت كل محاولات الحكومات التي وعدت في مكافحة الفساد وأخص في الذكر الحكومات الثلاثة الأخيرة كحكومة العبادي، وعبد المهدي، والكاظمي، وحاولت هذه الحكومات تشكيل مجالس لمكافحة الفساد ودعم هيئة النزاهة، لكن يبدو أنها غير قادرة فعلا لأسباب منها أن في هذه الحكومات ذاتها يوجد الكثير من أقطابها متهمة بالفساد ورهينة أحزاب وقوى سياسية، السبب الثاني أن هناك تغول للأحزاب في أغلب مؤسسات الدولة والذي عرف منذ فترة بالدولة العميقة، إذ أن ضعف القانون مما لا شك فيه يؤدي إلى صعود قوى بديلة تحاول أن تكون بديلة للدولة والقانون مما يعني ذلك الرجوع إلى مرحلة ما قبل الدولة وتصارع القوى والهويات.
ومما تقدم نستطيع القول استنتاجا: "إن التجربة السياسية في العراق تواجه نجاحها تحديات كبيرة وخطيرة أبرزها الفساد بجميع أشكاله ومصادره الرسمية وغير الرسمية، وغياب الإرادة في تطبيق سيادة القانون بحكم عوامل مختلفة أغلبها محلية، وأن استمرارية هذه التجربة بقواها السياسية التقليدية مرتهن بالقدرة على تجاوز ومعالجة هذين العنصرين خاصة وأن الساحة السياسية دخلت عليها قوى باتت مؤثرة بشكل فاعل على المستوى الشعبي وأبرزها القوى الاحتجاجية، وإن بدأت هي الأخرى مشتتة في الأشهر الأخيرة من العام، كما أن فشل التغيير الإصلاحي من داخل العملية السياسية يعني أن هناك سيناريوهات قد تدخل بقوة في المشهد السياسي خاصة إذا أتسم برنامجه الإصلاحي باستمرار معارضة السلمية، حتى وأن تمثلت في مجلس النواب بعد انتخابات 2021 المقبلة، إذ أن التغيير قد لا يكون شامل في تغيير شكل الخارطة السياسية والحزبية، وإنما قد يكون تغيير جزئي يبقي من نفوذ الكتل السياسية ذات الجمهور السياسي والعقائدي، ومن مستلزمات نجاح العمل السياسي في المرحلة القادمة ضرورة أن يكون المشهد السياسي على جنبتين: إحداهما حاكمة، وثانيهما معارضة، فالقوى والكيانات السياسية أحزاب الحالية أو التي ستقوم في المستقبل مطالبة بإقناع المواطن العراقي بمشروعها البناء والايجابي في خدمة الشعب وبناء الدولة، إذ أن فشل التجربة السياسية لا يعني إلا شيئا واحدا هو فشل القوى السياسية والرسمية كذلك والعكس صحيح أيضا".
اضف تعليق