وإذا كانت التحولاتُ الاجتماعية في طريق الإبداع والتطوير، فهي تحوُّلات إيجابية، تحت سيطرة العقل الجمعي، ويُمكن التحكُّم بها لصالح الخَير العام، وتوجيه مسارها لإحداث نهضة حقيقية. أمَّا إذا خرجت هذه التحولاتُ عن الطريق الصحيح، فإن المجتمع سيدفع ثمنًا غاليًا، لأنه فقد السيطرةَ على أهم عناصره...
التحولاتُ الاجتماعية ليست عمليةً ميكانيكية خالية من المشاعر الإنسانية، وليست إجراءً روتينيًّا يشتمل على منظومة السبب والنتيجة بدون وَعْي تاريخي أو تمهيد واقعي. إن التحولات الاجتماعية تتحرَّك وفق تراتبية معرفية منطقية، لا مكان فيها للصُّدَف أو أنصاف الحُلول. وإذا لم يستطع الإنسانُ إيجادَ تفسير منطقي للأحداث، فهذا لا يعني أن الأحداث عبثية. وإذا لم يَقْدِر المجتمعُ على تحليل الظواهر الرمزية المُسيطرة على سُلوك الفرد وتوجُّهات الجماعة، فهذا لا يعني أن الصُّدفة هي القانون الحاكم على أنساق المجتمع.
إن الأسباب والمُسبِّبات كامنة في الوجدان الإنساني والوَعْي الاجتماعي. واتحادُ الوجدان مع الوَعْي هو الذي يصنع الوجود الحقيقي للعناصر الفكرية في التاريخ والجغرافيا. وبما أن الوجود في حركة مُتواصلة، والطبيعة في صَيرورة مستمرة، ولا مكان للفراغ والعدم في الواقع المُعاش، فلا بُد من حدوث تحولات اجتماعية أُفقية وعمودية.
الأُفقيةُ تتمثَّل في الحراك الاجتماعي ضمن مستويات زمنية تتعلَّق بالماضي والحاضر والمستقبل، أمَّا العمودية (الرأسية) فتتمثَّل في الحَفْر المتواصل في طبيعةِ لغة الخطاب الاجتماعي، ومركزيةِ الظواهر الثقافية، والمعاييرِ الرمزية القائمة على الخلاص الفردي والمصلحة العامَّة، وحالاتِ الوَعْي الجَمْعي ضمن أُطُر التفاعل مع الذات والآخَر. وهذا يعني أن التحولات الاجتماعية ليست تحصيل حاصل، أو أمرًا مفروغًا مِنه، ومتروكًا لحركة الزمن.
إن هذه التحولات تُؤَثِّر في الزمن، كما يُؤَثِّر الزمنُ فيها، وهذا التأثير المُتبادل يُثبِت أنها تحوُّلات عقلانية، يُمكن توقُّع مسارها قبل حدوثها على أرض الواقع. وكُلُّ حراك اجتماعي في الوجود يُمكن توقُّع مساره، ومعرفة نقطة بدايته وغايته، فهو حراك عقلاني مُنظَّم محكوم بقوانين منطق اللغة ومنطق المجتمع معًا.
ومنطق اللغة يُوفِّر الشروطَ الفكرية لصناعة الفِعل الاجتماعي، لأنه لا يُوجد فِكر بدون لُغة. ومنطقُ المجتمع يُحدِّد الخصائصَ العقلانية للتوازن بين صراع الإنسان معَ ذاته وصراعه معَ مُحيطه، وكُل صراع ذهني هو علاقة فكرية، لأن الفِكر هو صراع قناعات وعُقول، وصِدام بين الحُجَج والبراهين. ولا يُوجد معنى بدون مُجتمع.
وإذا كانت التحولاتُ الاجتماعية في طريق الإبداع والتطوير، فهي تحوُّلات إيجابية، تحت سيطرة العقل الجمعي، ويُمكن التحكُّم بها لصالح الخَير العام، وتوجيه مسارها لإحداث نهضة حقيقية. أمَّا إذا خرجت هذه التحولاتُ عن الطريق الصحيح، فإن المجتمع سيدفع ثمنًا غاليًا، لأنه فقد السيطرةَ على أهم عناصره، وصارَ لاهثًا وراء الأحداث، تَقُوده ولا يَقُودها، وتتحكَّم به، ولا يتحكَّم بها، وهذا هو الانتحار التدريجي في المجتمع، حيث يَبدأ العَدُّ التنازلي لنهاية الحُلْم الاجتماعي في التقدُّم والازدهار، وهذا يعني بالضرورة بداية ظهور الكوابيس.
وإذا سيطرت الكوابيسُ على بِنية النظام الاجتماعي، فلن يَشعر الإنسانُ بجدوى وجوده، ولن يَعرف المجتمعُ مسارَه ومصيرَه. وإذا دخل العقلُ الجمعي في متاهة التحولات الاجتماعية الخارجة عن السيطرة، فإن المجتمع سيخرج من التاريخ، وتُصبح العلاقاتُ الإنسانية سِلعةً في مَوضع العَرْض والطَّلَب.
وعندئذ، يتحوَّل الإنسانُ من كائن حَي مُفكِّر إلى أداة وظيفية وشَيء هامشي، ويتحوَّل المجتمعُ مِن كيان اعتباري له شرعية وجودية ورمزية حضارية، إلى ساحة لتصفية الحسابات، ورُقْعَة شِطْرَنْج يُحرِّك عليها الأقوياءُ أحجارَهم. وإذا وَضَعَ المجتمعُ مصيرَه في أيدي الآخرين، فلا بد أنهم سيلعبون به لتحقيق مصالحهم الشخصية. وما دام القِطارُ على السِّكة فهو تحت السيطرة، أمَّا إذا خرج عن السِّكة، فقد صارَ وحشًا قاتلًا خارج السيطرة.
اضف تعليق