مرة اخرى تقف الدولة العراقية، بسلطتها التشريعية، عارية امام المرآة وهي تنظر بلا مبالاة الى شللها التشريعي. فقد عجز مجلس النواب عن تشريع القانون الجديد للمحكمة الاتحادية، وتراجع الى موقع تعديل القانون الحالي النافذ، اي الامر رقم ٣٠ لسنة ٢٠٠٥، واستبدل جميع اعضائها الحاليين بقضاة جدد...
مرة اخرى تقف الدولة العراقية، بسلطتها التشريعية، عارية امام المرآة وهي تنظر بلا مبالاة الى شللها التشريعي. فقد عجز مجلس النواب عن تشريع القانون الجديد للمحكمة الاتحادية، وتراجع الى موقع تعديل القانون الحالي النافذ، اي الامر رقم ٣٠ لسنة ٢٠٠٥، واستبدل جميع اعضائها الحاليين بقضاة جدد، واحالهم على التقاعد، وشكّل محكمة اتحادية عليا جديدة بقضاة اصليين تسعة جدد دون خبراء فقه اسلامي ولا فقهاء قانون، ولغاية ١ / ٤ /٢٠٢٣ فقط.
وبدل ان (يكحلها عماها) كما يقول المثل العراقي، حين صوت مجلس النواب ايضا على مادة في التعديل تنص على ان "يحفظ في تكوين المحكمة التوازن الدستوري بين مكونات الشعب العراقي"، وبهذا اضاف النواب الاذكياء مصطلحا جديدا غير دستوري الى معجم المصطلحات الدستورية، هو مصطلح "التوازن الدستوري".
ولعل النواب استوحوا الفقرة اولا/أ من المادة (9) من الدستور التي تقول: "تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييزٍ او اقصاء." او المادة (105) التي تقول: "تؤسس هيئةٌ عامة لضمان حقوق الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، في المشاركة العادلة في ادارة مؤسسات الدولة الاتحادية المختلفة، والبعثات والزمالات الدراسية، والوفود والمؤتمرات الاقليمية والدولية، وتكون من ممثلي الحكومة الاتحادية، والاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، وتنظم بقانون". لكن كلا المادتين لا تتحدثان عن مصطلح "التوازن الدستوري".
وهذا يكشف عن عمق "الجهل الدستوري" للنواب، او عن سطحية ثقافتهم الدستورية. وفي كلا الحالتين فليس هذا الا دليل جديد على عقم الطبقة السياسية واستحكام انسدادها السياسي وعجزها عن حل التعارضات التي اصابتها بالشلل. وهي تعارضات كرسها الدستور وهو يعرّف العراق في مادته الثالثة حيث قال: "العراق بلدٌ متعدد القوميات والاديان والمذاهب". وبدل ان تستثمر الطبقةُ السياسيةُ التعدديةَ لبناء نظام ديمقراطي/ برلماني مزدهر، ذهبت الى خيار التوافقية، والمحاصصة المكوناتية، متخليةً بذلك عن مبدأ المواطنة الذي يشكل الاساس الاول للدولة الحضارية الديمقراطية الحديثة.
لقد كشف النائب يونادم كنا، رئيس كتلة الرافدين النيابية المسيحية عن هذه التعارضات حين تحدث عن مقاطعة جلسة مجلس النواب من قبل "ممثلي المكونات الأقلية من المسيحيين والأيزيديين والصابئة المندائيين" وذلك لسببين، كما قال، وهما: "أولا: الدور لخبراء الفقه الاسلامي الذي يتناقض مع المادة 88 من الدستور والمخاوف من تبعات ذلك على مدنية الدولة، والآخر: التوافقات على المحاصصة الطائفية والقومية" التي ادت الى "إقصاء ممثلي المكونات من عضوية المحكمة بصفة قاض" الامر الذي عده "تراجعا عن مبادئ الشراكة الوطنية والمبادئ الدستورية وتهميشا لمكونات أصلية من الشعب العراقي".
ولكن النائب لم يشر الى المخالفة الدستورية في التعديل الاخير الذي يتعارض مع المادة (92) التي تنص في فقرتها الثانية على ان "تكون المحكمة الاتحادية العليا، من عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب."
ليس سرا ان التعارضين الاساسيين اللذين عجز مجلس النواب عن حلهما وهو يحاول تشريع القانون المذكور في ذيل هذه المادة هما: التعارض بين الهوية المكوناتية للدولة او الهوية المواطنية لها، والتعارض بين الاسلاميين والعلمانيين. ولا جدوى من التستر على هذين التعارضين، او غيرهما، كما لا جدوى من التهرب من اعلان فشل الطبقة السياسية الحالية في حل هذين التعارضين حلا ديمقراطيا حضاريا. ان اي استبدال للطبقة الحالية يجب ان يكون مشروطا بقدرة البديل على حل هذه التعارضات، والا فلن يعدو الامر الا ان يكون تدويرا للوجوه واعادة انتاج الازمة.
اضف تعليق