أن يكون الإنسان واقعيا وموضوعيا في نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، فيدرس ما عنده من خصائص وما عند الآخرين من خصائص، حتى يعرف حجمه أمام الآخر، ويعرف حجم الآخر أمامه. من النظرة الموضوعية والعادلة للذات والآخر، يكتشف الإنسان أبعاده الإنسانية العميقة التي تدفعه التواصل ونسج العلاقات الطيبة...
مفتتح:
عديدة هي المشاكل والقضايا التي تعانيها مجتمعاتنا، وتمارس دورا سيئا في نظام علاقاتها الداخلية، وما يترتب على ذلك من ضعف وإهتراء وتدهور وغياب الحدود الدنيا من متطلبات الثقة وحسن الظن.
ولعل المخاطر التي تثيرها هذه الأدران والأمراض، هي أخطر بكثير من تحديات الخارج ومؤامراته المتواصلة. وذلك لأن هذه التحديات بأهدافها وآليات عملها تحفز الداخل على الاستعداد، وتوفر إمكانية القيام لمواجهتها من قبل جميع شرائح المجتمع. أما أدران الداخل وأمراضه فهي تنخر في الجسم الاجتماعي نخرا، وتقوّض أسس القوة والعزة ببطء وهدوء، مما يؤدي إلى تأثيرها العظيم دون انتباه الكثير من الناس والمعنيين.
ويقول تبارك وتعالى [بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا] (1)..
فالنتيجة التي تؤكدها الآية الكريمة، وهي البوار والتردي، مرتبطة بشكل مباشر بالمقدمة التي تحدثت عنها الآية.. أي أن ظن السوء يقود إلى البوار والخسران. وذلك لأن هذا الظن يفتت العلاقات الداخلية وينخر في نظام المجتمع، مما يؤدي في المحصلة الأخيرة إلى غياب كل أسباب القوة في المجتمع مما يفضي إلى البوار والتردي..
لذلك ينبغي لنا باستمرار أن نفحص واقعنا الاجتماعي، ونعمل على طرد كل القضايا والمشاكل التي تساهم في ضعفنا وتدهورنا وخسراننا سواء إلى معارك التنمية والبناء أو معارك إفشال مخططات الأعداء.
وإن المنطقة وعلى ضوء تطورات الحرب الأمريكية والبريطانية على العراق، تعيش مرحلة حرجة، مما يتطلب من الجميع الانتباه والتعامل مع ما يجري بروح عالية من المسؤولية. ونحن وفق هذا المنظور ينبغي أن نتعامل مع مشكلاتنا الداخلية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تضعيف المجتمع، وإدخاله في معارك جزئية وهامشية، لا تفضي إلا إلى المزيد من تراجع موقعنا على الصعد كافة..
ولعل من أهم القضايا التي ينبغي أن نعمل على علاجها بشكل سريع، هي تلك القضايا التي تثيرها عقلية التعصب الأعمى، وما تثيرها هذه العقلية من أحقاد وضغائن تربك ساحات العرب والمسلمين الداخلية، وتفتح جروحا وحروبا وفتنا، تهدد الجميع بالاندثار والضياع.
وإننا كعرب ومسلمين، لا نستطيع أن نواجه أعداء الأمة وتحدياتها الكبرى، إلا بتنقية أجواءنا وأوضاعنا من تلك الأمراض والأدران، التي تربك أحوالنا الداخلية، وتسعى نحو تفتيتنا وتشتيتنا تحت عناوين ومسميات مختلفة. إن وحدتنا الوطنية والعربية والإسلامية، تقتضي منا جميعا نبذ التعصب ومحاربة ثقافة الحقد والضغينة والكراهية. وذلك لأن هذه الثقافة بتأثيراتها ومتوالياتها النفسية والسلوكية، هي التي تدخلنا في نفق الضياع والتردي..
إننا أحوج ما نكون اليوم، إلى تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية..
ولا يتم كل هذا إلا بطرد تلك الثقافة، التي تربي الإنسان على الحقد والكراهية والفرز بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. لا يمكن أن تنمو حقائق الوحدة في أي مجتمع مع ثقافة التعصب والكراهية، وذلك لأن هذه الأخيرة تقوّض كل أسس التوافق وأسباب الوحدة وضرورات الالتحام والائتلاف.
لذلك فإن عمق وحدتنا كعرب ومسلمين، مرهون إلى حد بعيد على قدرتنا على تأسيس ثقافة اجتماعية جديدة قوامها التسامح واحترام الاختلاف والالتزام بمقتضيات حقوق الإنسان.
وإن إيماننا العميق بأفكارنا وتصوراتنا إلى الأمور والقضايا، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات قسرية وعنفية في التعامل مع الآخرين. فالقسر لا يقود إلى الإقناع والالتزام، والعنف يزيد من ابتعاد الناس عن قناعاتنا وأفكارنا.
فلا يكفي أن تكون أفكار الإنسان صحيحة أو أهدافه نبيلة، وإنما من الضروري أن يتبنى أساليب ووسائل منسجمة ونبل الأهداف ومتناغمة وإنسانية الإنسان. وفي الكثير من الأحيان، الذي يقود الإنسان إلى الالتزام بفكرة ما أو عقيدة ما، ليس أهدافها وغاياتها، وإنما طبيعة الأساليب والوسائل المستخدمة للتعريف بتلك الفكرة والعقيدة. لذلك يقول تبارك وتعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم]..(2)
فالسلوك الايجابي والممارسة الحسنة المنضبطة بضوابط الأخلاق وحسن التعامل مع الآخر، هو الذي يقود إلى الإقناع والالتزام.. أما ممارسة العنف والقسر، فلا يقود إلا إلى المزيد من التفلت من هذه الأفكار والقناعات والأهداف.. لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية، تؤكد على ضرورة الرحمة والرفق في التعامل مع الآخرين. وهذه القيم والصفات هي القادرة وحدها على نقل الإنسان من موقع الأخوة والصحبة، ومن موقع الاتهام وسوء الظن إلى موقع الاحترام وحسن الظن.
لذلك جاء في الحديث الشريف (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع عن شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف).. فالباري عز وجل يبغض العنف في العلاقات الإنسانية، كما أن تأثيرات هذا السلوك وهذه الممارسة وخيمة على استقرار المجتمع وأمنه.
فالعصبية بمتوالياتها المتعددة، والكراهية بما تنتجه من أعمال ومواقف تجاه الآخر، ساهمت في هزيمتنا وتأخرنا. وذلك لأننا أصبحنا دائما نعاني من أمراضنا وأدراننا الداخلية، ولا نمتلك القدرة الكافية من جراء ذلك للخروج من هذه الشرنقة التي بناها أهل التعصب لمجتمعاتنا العربية والإسلامية.
فحينما تهتك الحرمات وتزداد الافتراءات والأراجيف، يدخل الواقع الاجتماعي في أتون المعارك العبثية، التي لا تزيده إلا ضياعا وبعدا عن صناعة المنجز الحضاري أو الدفاع عن قضاياه الجوهرية.
لذلك فإننا نرى أن ثقافة الكراهية والتعصب في العالم العربي والإسلامي، ساهمت في إرباك نظام الأولويات، كما أنها خلطت الأوراق وجعلت الجميع بشكل أو بآخر خاضعا لتداعياتها. ولعلنا نقترب من الحقيقة، حين القول أن العلاقة قصيرة بين هذا الانشغال والخضوع والمحاولات التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي والسيطرة على مقدراتهما وثرواتهما.
لهذا فإننا نرى في هذه الثقافة بكل وسائطها ومنتجاتها من الثقوب الأساسية في وعينا الاجتماعي، والتي تساهم في زيادة وتيرة تراجعنا واندحارنا.
لذلك ينبغي أن يعمل الجميع لسد هذه الثغرات والثقوب، حتى يتوفر الوعي الاجتماعي القادر على صيانة الوحدة الوطنية والمتجه بقوة وحكمة صوب خلق موجبات التطور والتقدم.
فالقلوب المظلمة بالحقد والكراهية، لا يمكنها أن تضيء قلب أحد، وذلك لأن تراكم الضغينة يحول دون اكتشاف الطريق المناسب والسليم لممارسة الهداية والدعوة.. لذلك جاء في المأثور (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك)..
وعليه فإن خلق الوعي الاجتماعي الجديد، بحاجة إلى الأمور التالية:
1. لا ريب أن بناء الوعي الاجتماعي الجديد، وإحداث قطيعة حقيقية على المستويين المعرفي والسلوكي مع ثقافة التعصب والكراهية، بحاجة إلى عمل متراكم يتجه إلى بناء حقائق مجتمعية، تعلي من شأن التسامح والحوار. وهذا يتطلب من الجميع آحادا وجماعات ممارسة مسؤولية تطوير الأداء والسلوك الاجتماعي المستند على قيم التواصل والمناقبيات الأخلاقية ومساواة الذات بالآخر.
فالوعي الاجتماعي الجديد، لا يبني صدفة أو من خلال جهد شريحة أو فئة من المجتمع، وإنما يبنى من خلال جهود وسعي الجميع، كل من موقعه ينبغي أن يمارس دوره ووظيفته في القطع مع ثقافة التعصب وموجباتها الخاصة والعامة وإرساء معالم ثقافة وعي جديد تنسجم ومقتضيات الأخوة الدينية والوطنية.
2. إننا ومن مختلف مواقعنا بحاجة أن نتخلص من الأنفة والحمية والإحساس المرضي بالذات. وذلك لأن هذه العناصر تختزن الكثير من الآثار والأمراض التي تؤثر على طبيعة ومفهوم الاستقرار في المجتمع. فالشعور بخيريتك من الآخر يقود إلى التكبر وممارسة الظلم تجاهه. لذلك فإن المطلوب أن يكون الإنسان واقعيا وموضوعيا في نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، فيدرس ما عنده من خصائص وما عند الآخرين من خصائص، حتى يعرف حجمه أمام الآخر، ويعرف حجم الآخر أمامه.
فمن خلال النظرة الموضوعية والعادلة للذات والآخر، يكتشف الإنسان أبعاده الإنسانية العميقة التي تدفعه للمزيد من التواصل ونسج العلاقات الطيبة والأخوية مع الآخرين.
لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على حقيقة أن الباري عز وجل أنزل على المؤمنين سكينته، التي تنعكس في حياته الخاصة والعامة طمأنينة وهدوء النفس وملازمة التقوى في السر والعلن.
إذ يقول تبارك وتعالى [إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما] (3).. فالإنسان بما يختزن من سكينة الإيمان ومقتضيات التقوى، يساهم مساهمة رئيسية في إرساء وعي اجتماعي جديد، ينبذ التعصب وكل أشكال الحميّة الجاهلية، ويعمل على نسج علاقات عميقة مع الآخر على قاعدة الاعتراف والمساواة.
فتعالوا أيها الأحبة ومن مختلف مواقعنا، نتدرب على ممارسة الفضيلة بكل تجلياتها ومقتضياتها مع المختلفين معنا، وأن نزيل من قلوبنا كل الأغلال التي تحول دون الحوار والانفتاح والتواصل مع الآخرين.
فالاختلاف في الدائرة الوطنية والإسلامية لا يقود إلى الخصومة بل إلى الحوار والفهم المتبادل والتلاقي حتى تتبلور الرؤية ويزول الغبش وتزداد أسباب الألفة والمحبة.
اضف تعليق