بَين الأنساق الاجتماعية والمَعنى الاجتماعي، يُولَد مجتمع جديد لا يَقِف على الحِياد، ولا يتفرَّج على الأحداث، وإنما يَخوض في مفاهيم إنتاج المعرفة، ويُشارك في صناعة الأحداث، والتحكُّم بمسارها. والمجتمعُ الجديد لا يعني تغيير الأشخاص أو تبديل الشعارات، والإنسانُ الجديد لا يعني تغيير الملابس، أو تسريحة الشَّعْر...
(1)
الغايةُ مِن تحليل الأنساق الاجتماعية هي تفسير مصادر المعرفة، التي تكتشف تاريخَ الوَعْي الإنساني، وتُحِيله إلى علاقات وجودية منطقية قائمة على منظومة التَّأسيس والتَّوليد، تأسيس قواعد المنهج الاجتماعي، وتوليد أنساق إبداعية تُوازن بين الشكل والمضمون.
والأنساقُ الاجتماعية لَيست كُتلةً جامدةً، أو وِعاءً فلسفيًّا لتجميع الأحداث التاريخية، وإنما هي حَيَوَات مُتكاثرة ومُكثَّفة في بُؤرة إنسانية مركزية شديدة العُمق. وهذه البُؤرة كَبِئر الماء، إذا أردنا معرفةَ عُمقها، ينبغي أن نُلقيَ حجرًا فيها، وننتظر ارتطامه بالماء، والوقتُ الذي يستغرقه الحَجَرُ في الوصول إلى القاع، يُظهِر عُمْقَ البِئر. ومركزيةُ الحَجَر في بِئر الماء، تُشبِه مركزية المعنى الاجتماعي في البؤرة الإنسانية.
(2)
التشابك في الأنساق يُؤَدِّي إلى التَّعقيد في المعنى، ومُهمةُ الوَعْي الإنساني أن يُكثِّف المعنى اجتماعيًّا، ويَمنعه مِن التَّشَظِّي، ويُحوِّله إلى كيان رمزي تفاعلي ومُتماسك، يَحتضنه الناسُ، ويُشاركون في تفسير مَاهِيَّتِه، وتأويل أبعاده، وتطبيقه على أرض الواقع. وإذا انتقلَ المعنى من الغُموض إلى الوُضوح، ومِن سُطور الكُتب إلى صُدور الناس، ومِن الهُلامية إلى الواقعية، اتَّضحت الأنساقُ التي تتحكَّم بسُلوك الناس، وزالَ التعقيد في معنى حياتهم، وبالتالي تُصبح الأنساق طريقًا للخَلاص الاجتماعي، ويُصبح المعنى رحلةً إلى قلب الحقيقة.
(3)
بَين الأنساق الاجتماعية والمَعنى الاجتماعي، يُولَد مجتمع جديد لا يَقِف على الحِياد، ولا يتفرَّج على الأحداث، وإنما يَخوض في مفاهيم إنتاج المعرفة، ويُشارك في صناعة الأحداث، والتحكُّم بمسارها. والمجتمعُ الجديد لا يعني تغيير الأشخاص أو تبديل الشعارات، والإنسانُ الجديد لا يعني تغيير الملابس، أو تسريحة الشَّعْر.
إنَّ "الجديد" لا يتحقَّق إلا بالتَّجديد، وهذا يَستلزم بالضَّرورة مُساءلة الأفكار الذهنية، واختبار القرارات الواقعية، وتحليل الأحداث الاجتماعية. وإذا اعتادَ الفردُ على طرح الأسئلة أمام المواقف الحياتية المختلفة (متى حدث هذا الموقف؟، كيف حدث؟، لماذا حدث؟)، وبحثَ عن إجابات منطقية مُتسلسلة زمنيًّا ومكانيًّا وفكريًّا، فإنَّه سيجد نَفْسَه معَ مُرور الوقت فَيلسوفًا حقيقيًّا دُون أن يدرس الفلسفةَ.
وإذا وَصَلَ إلى هذه المرحلة المُتقدِّمة صار سهلًا عليه دراسة كافَّة الاحتمالات، وفحص المُسلَّمات، وأخذ الدروس والعِبَر مِن التاريخ، والاستفادة من تجارب الآخرين. وكُلَّما سيطرت الأسئلةُ على عقل الفرد المُتحرِّك في أنساق الفِعل الاجتماعي أفقيًّا وعموديًّا، صارَ شديدًا على نَفْسِه، مُتساهلًا مَعَ الناس.
وسببُ الشِّدة على النَّفْس، لأنَّ الفرد يَعلَم أخطاءه وخطاياه ونقاط ضَعْفه، ويجب ألا يَرضى عن نَفْسه، لأن الرِّضا عَن النَّفْس يَدفعها إلى الخُمول والغُرور، والحياةُ الحقيقيةُ هي سَعْي دائم نحو الكمال، والفِكرُ الإنساني في صَيرورة مُستمرة لا تهدأ ولا تتوقَّف. والتَّوَقُّف لا يَكون أثناء صُعود الجبل، بَل يَكون عِند الوصول إلى القِمَّة.
وهذا التَّوَقُّف مُؤقَّت، يُشبِه استراحةَ المُحارب، ثُمَّ تبدأ رحلةُ البحث عَن قِمَم جديدة، وهذا يعني أن الحياة تجارب دائمة، ومُغامرات مُتواصلة، وأحلام مفتوحة على كُل الاحتمالات. أمَّا سبب التساهل معَ الناس، فيعود إلى كَوْنهم مُختلفين في القُدرات والإمكانيات، ويَخضعون لظُروف مُختلفة، وضُغوط مُتعدِّدة، فينبغي مُساعدتهم، والأخذ بأيديهم إلى بَر الأمان.
والعاقلُ يتكبَّر على نَفْسِه كَي يَقهرها، ويتحكَّم برغباتها، ويُعيدها مِن الطريق المسدود، بحثًا عن طريق مفتوح. وفي نَفْس الوقت يتواضع للآخرين، كَي يَكسب ثِقَتَهم، ويُرشدهم إلى الطريق المفتوح، ويَفتح لهم نوافذ الأمل بوجود غَد مُشرق.
وعلى الفَرد أن يَزرع الأفكارَ الإبداعية في كُل حقول المعرفة، ولا يسأل عن موعد الحصاد، ولا هُوِيَّة الحاصد. ولَيس شرطًا أن يَكون الزارعُ هو الحاصدَ، ولَيس شرطًا أن يكون واضعُ النظرية أفضلَ مَن يُطبِّقها.
اضف تعليق