لم تترسّخ، فكرة المواطنة في الدولة العربية الحديثة بعد، سواءً على الصعيدين النظري أم العملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم السلطة والمعارضة، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسّسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي...
لم تترسّخ، فكرة المواطنة في الدولة العربية الحديثة بعد، سواءً على الصعيدين النظري أم العملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة)، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسّسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي.
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كمنجز بشري كبير الأهمية، خصوصاً لجهة حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة بمعناها الحديث ارتبطت بتطوّر الدولة، ولا سيّما خلال القرون الثلاثة الماضية، والأمر يتعلّق بالأبعاد الفكرية والحقوقية والقانونية ووظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الراهنة.
ومنذ القرن الثامن عشر اعتمدت فكرة المواطنة بالدرجة الأساس على بناء الدولة، بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد وقيمة الحرّية، بما فيها حرّية السوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوّراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطوّر مفهوم الديمقراطية الناشئ وقبول مبدأ الاقتراع العام.
أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى حقوقه المدنية والسياسية التي جرى التوسّع فيها تدريجياً. وقد وجدت هذه الحقوق تأطيراً وتقنيناً دولياً بعد التطوّر الذي حصل على الصعيد العالمي بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، وقد حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر، لا سيّما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية، وهو ما شهدته المجتمعات الغربية التي تبلورت فيها الفكرة بعد صراع طويل وتراكم كبير.
1- معاصرة وحقوق
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمّةٍ في طريق تأمين الحقوق والحريّات المدنية والسياسية، وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحرّيات بالعدالة، وهو الأمر الذي نطلق عليه عنوان "المواطنة العضوية"، أي المواطنة التي تقوم على:
أولاً: قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً: قاعدة الحرّية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها، فهي المدخل والبوابة الضرورية لجميع الحقوق، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملّك والتنقل وعدم التعرّض إلى التعذيب... إلخ.
وثالثا- قاعدة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى العدالة ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن يتحقّق من خلال التنمية، وهو ما نقصده "التنمية المستدامة": السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية إلخ، المستندة إلى قاعدة الحرّيات والحقوق المدنية والسياسية، تلك التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات، لا سيّما التعليمية وتأمين حقوق المرأة و"المجاميع الثقافية" وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
رابعاً- قاعدة المشاركة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي، إذ لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة والحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأي اعتبار كان.
وعلى أساس هذه الحقوق يمكن أن تتعايش هويّات مصغرة (فرعية) مع الهويّة العامة في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق "الأغلبية" من جهة، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى، على أساس التكامل والتكافؤ والتكافل والمساواة، أي التنوع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب. لقد ظلّ الاتجاه السائد في الثقافة المهيّمنة يميل إلى عدم احترام الخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوق "الأقليات"، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو غير ذلك.
وإذا كانت الحرّية قاعدة أساسية للجيل الأوّل لحقوق الإنسان، لا سيّما فكرة المساواة في الكرامة والحقوق، وبخاصة الحق في الحياة وعدم التعرّض للتعذيب وحق اللّجوء وحق التمتّع بجنسية ما وعدم نزعها تعسفاً، وحق الملكية، إضافة إلى الحقوق والحريات الأساسية، فإن الجيل الثاني لحقوق الإنسان، ارتبط بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص لحقوق الإنسان الصادر عام 1966 والتي تشمل حقوق العمل والضمان الاجتماعي والتعليم وحقوق المرأة والطفل والمشاركة في الحياة الثقافية والاستفادة من منجزاتها وغيرها.
أما الجيل الثالث لحقوق الإنسان فهو يستند إلى الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من الثورة العلمية – التقنية. ويمكن اعتبار الجيل الرابع ممثلاً بالحق في الديمقراطية، خصوصاً بإجراء الانتخابات والحق في التنوّع والتعدّدية واحترام الهويّات الخاصة، لا سيّما بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكيك دولها وبخاصة الاتحاد السوفيتي.
وكان مؤتمر باريس المنعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، قد وضع أساساً جديداً لشكل العلاقات الدولية ورسّخ هذا الاتجاه مؤتمر برلين (حزيران – يونيو) 1991 بعد حرب الخليج الثانية، بتأكيد: التعدّدية والتداولية وتشكيل مركز دائم لمراقبة الانتخابات وحرّية السوق، رغم أن القوى المتنفّذة حاولت توظيف هذا التوجه العالمي الإيجابي لمصالحها الأنانية الضيقة.
ولعلّ انكسار رياح التغيير التي هبّت على أوروبا في أواخر الثمانينات عند شواطئ البحر المتوسط، كان بسبب سعي القوى الدولية المتسيّدة في توجيه الأحداث طبقاً لمآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية دون مراعاة لحقوق شعوب ودول المنطقة، الأمر الذي عطّل عملية التغيير، تلك التي جرت محاولات لفرضها من الخارج، ولكن على نحو مشوّه خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول ( سبتمبر ) 2001 الإرهابية التي نجم عنها احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003.
ومثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين المواطنة والدولة، وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة المواطنة ببعدها الكوني وأساسها الحقوقي الإنساني قد اقتربت من المشترك الإنساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والإثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لا سيّما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الإنسانية.
المواطنة تقوم وتستند إلى قاعدة المواطن – الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حرّيته، الأساس في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتعّزيز مبادئ المساواة والحرّية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوّع والتعدّدية من جهة أخرى، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الإنساني في الحقوق والواجبات، وليس بالانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزّز من خلال الدولة، فإنها تغتني وتتعمّق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوّة رصد من جهة للانتهاكات المتعلّقة بالحريّة والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، الأمر الذي يجعله شريكاً فعّالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لا سيّما إذا تحولّت الدولة من حامية إلى راعية، مرتقية السلم المجتمعي والأمن الإنساني، خصوصاً بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار، والمواطن كإنسان في ظلّ الحق والعدل.
ومثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب "دولتية" أو ما يشابهها في الحضارات القديمة لدول المنطقة، وخصوصاً حضارة وادي الرافدين، وحضارة وادي النيل، وصولاً إلى العهد الراشدي الأوّل وما بعده، أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسّعت وتطوّرت في ظلّ الدولة العباسية، وفيما بعد في إطار الدولة العثمانية في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثّرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لا سيّما بفكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية – الإسلامية، فإن هذا المفهوم وتساوقاً مع التطوّر الفقهي على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، على الرغم من النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً بالتطوّر الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط القرن العشرين، خصوصاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهدين الدوليين، الأول: الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني: الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران في العام 1966 والداخلان حيّز التنفيذ العام 1976، إضافة إلى العديد من الوثائق الدولية، التي أكّدت: أنّ لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول.
ويستخدم مصطلح المواطنة في القانون الدولي، الذي يوازيه مصطلح الجنسية بالتبادل فيما بينهما، حين يتم الحديث عن منح الأشخاص الحق في حماية دولةٍ ما إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنية، تلك التي تشكل ركناً أساسياً في هويّة الفرد – الإنسان، ويمكن تعريف المواطنة الحيوية أو العضوية بأنها " الحصول على الحقوق والتمتع بها بصورةٍ عادلة".
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي أكّدتها المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصّت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، إلاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة، بغض النظر عن أن حالات انعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية.
ولعلّ المثل الأكثر سفوراً في العالم العربي، هو تهجير الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقّهم في وطنهم، وبالتالي جعلهم عرضةً لحالات انعدام الجنسية. ولا شكّ أن انتشار حالات اللاجئين وسوء أوضاعهم هي التي دفعت الأمم المتحدة إلى إنشاء مكتب للمفوضية السامية للاجئين كإحدى وكالات الأمم المتحدة المسؤولة عنهم وللحد من ظاهرة انعدام الجنسية.
وقد عرف الوطن العربي حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة، تلك التي تشمل أفراداً أو مجموعات بشرية، وذلك بهضم حقوقها أو استلاب إرادتها أو حرمانها من الحصول على "الحق في الجنسية"، كما حصل للمهجرين العراقيين، لا سيّما عشيّة وخلال الحرب العراقية – الإيرانية وقسم كبير منهم من الأكراد الفيليين، إذْ انتزعت منهم جنسيتهم وصودرت أملاكهم في العراق بحجة التبعية الإيرانية، ولم يُعترف بهم في إيران أيضاً، فعاشوا دون جنسية ودون وطن ومواطنة، وهناك حالات أخرى في سوريا، تلك التي يطلق عليها اسم "المكتومين" وغالبيتهم الساحقة من الأكراد السوريين الذين لم يحصلوا على الجنسية، وبالتالي على حقوق المواطنة، وأما حالات "البدون" فهي معروفة في الكويت وبعض دول الخليج التي حرمت عشرات الآلاف من حقوق المواطنة.
إن الكثير من حالات وإشكالات الحرمان من الجنسية في العالم العربي، شملت رجالاً أو نساءً، ولا سيّما الأبناء بسبب الزواج من أجانب، أو من فلسطينيين أو أشخاص بلا جنسية أو في حالات الطلاق، الأمر الذي جعل الأبناء بلا جنسية، إذْ أن الغالبية الساحقة من قوانين البلدان العربية لا تسمح بالحصول على الجنسية عن طريق الأم، الأمر الذي خلق مشاكل لا تتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية حسب، بل بالحق في التعليم والتطبيب والعمل والإقامة، وغير ذلك.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة عن الأفراد والجماعات الذين يمكنها إثبات وجود علاقة حقيقية وفعّالة بينهم وبين بلدهم، سواءً عن طريق رابطة الدم "البنوّة" للآباء، على الرغم من أن العديد من البلدان العربية ما زالت تحجب هذا الحق عن الانتساب إلى جنسية الأم، في حين أن القانون الدولي لحقوق الإنسان يعطي مثل هذا الحق، إضافة إلى إمكان الحصول عليه عن طريق ما يسمّى بـ"الأرض"، أي "الولادة" في الإقليم، أو حتى الحصول على جنسيته ومواطنته لاحقاً أو اكتساب الجنسية، نظراً للإقامة الطّويلة والمستمرّة والتقدّم بطلب إلى السلطات المسؤولة عن ذلك.
وإذا كان انشغال النخب العربية بفكرة "الأمّة الإسلامية" أو "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر وربما في بدايات القرن العشرين، فإن الانبعاث القومي العربي بدأ يتعزّز لاحقاً، حيث بدأت النخبة الثقافية والتنويرية الإسلامية والعلمانية، الاهتمام بالفكرة الحديثة عن الدولة التي تعتبر المواطنة أحد مظاهرها الأساسية، فالشعب والحكومة والأرض والسيادة أركان الدولة وعناصر وجودها، التي تستقيم وتتعزّز في ظلّ احترام الحقوق والحريّات وتكريس مبدأ المساواة الكاملة والمواطنة التامّة في إطار سيادة القانون.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة و"الأقليّة"، وهذه النّظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فـ"الأقلية" قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو "مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الأمور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لا سيّما: الحقوق والمساواة والحرّية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من مفهوم المواطنة، خصوصاً في ظل ضغوط اجتماعية لتشكيلات ما قبل الدولة، وهي في الغالب مسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة حتى في إطار ما يسمّى بـ"الأغلبية" على بعض النخب "الأقلويّة" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو "تسلّطية"، لا سيّما بغياب مبادئ المساواة وتهميش "المجاميع الثقافية" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والاستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة.
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضدّ من تطوّر فكرة المساواة والحرّية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامّة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعدّدية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة.
2- المواطنة والدولة: التاريخ القانوني
يعود جذر كلمة المواطنة إلى الوطن، وهذا الأخير يكاد يكون ملتبساً أو متماهياً مع مفهوم الدولة، فالدولة هي الإطار التنفيذي والمؤسساتي للوطن، وبالطبع فهي تختلف عن نظام الحكم أو الحكومة بمعنى السلطة.
الوطن هو "المتّحد" الجغرافي الذي تعيش فيه مجموعات بشرية، قومية ودينية وسلالية ولغوية متنوعة ومختلفة. أي هناك (شعباً) يسكن في أرض (الإقليم) ولديه سلطة أي (حكومة) ويتمتع بالسيادة، أي بحقه في حكم نفسه بنفسه. وهذا المفهوم أقرب إلى فكرة الدولة العصرية.
والوطن بهذا المعنى ليس علاقة عابرة أو ظرفية أو مؤقتة، وإنما هو مجموعة العلاقات الإنسانية والعاطفية والثقافية والمادية المحدّدة في إطار هويّة معيّنة عمودياً وأفقياً، فكل إنسان لا بدّ أن يولد في وطن أو أن يكون موجوداً فيه أو منتمياً إليه، ولكن الإنسان لا يولد مواطناً، بل يكتسب هذه الصفة داخل مجتمعه وفي إطار حدود ما نطلق عليه الدولة بالمفهوم الحديث من خلال مشاركته واعتماداً على مبادئ الحرّية والمساواة والعدالة.
والمواطنة في نهاية المطاف هي مجموع القيم الإنسانية والمعايير الحقوقية والقانونية المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، التي تمكّن الفرد من الانخراط في مجتمع والتفاعل معه إيجاباً والمشاركة في إدارة شؤونه، وهو ما نطلق عليه مصطلح المواطنة العضوية.
أما مفهوم الجنسية الذي يرتبط بالمواطنة بوصفها رابطة قانونية وسياسية وأداة للتمييز بين الوطني والأجنبي، فلم يظهر إلاّ في وقت متأخر ويرجعه البعض إلى بداية القرن التاسع عشر، وقد تعاظم الاهتمام بذلك بتوفير الحماية الفعالة للأفراد.
وإذا كانت الرابطة بين الفرد والجماعة سابقاً تقوم على اعتبارات دينية أو تاريخية "انحدار من أصول معينة" أو الإقامة في رقعة جغرافية بصورة استقرار دائم، فإن العلاقة اتخذت شكلاً آخر في الدولة الحديثة، لا سيّما في إطار فكرة المواطنة.
ففي العهود القديمة كانت الأسرة هي التي تمثل الخلية أو الوحدة التي يجتمع في نطاقها الأفراد، وعن طريق تجمع الأسر تنشأ العشيرة أو القبيلة التي تجمع الأصول العائلية والديانة والاستقرار.
أما مفهوم الأجنبي سابقاً فهو يختلف عن مفهوم الأجنبي حالياً، ففي تلك العهود كان مفهوم الأجنبي هو كل من لا يرتبط مع أفراد القبيلة أو العشيرة بالعوامل المذكورة، مما كان يمكن اعتباره عدواً يستحق القتل أو خصماً يستوجب إبعاده، وظلّت العوامل والأسس العرقية سائدة حتى بعد اجتماع العشائر أو القبائل في مدينة واحدة يحكمها شخص أو مجموعة أشخاص كما هو شأن أثينا وسبارطة، وإذا ما أردنا العودة إلى أبعد من ذلك، فيمكن البحث في الحضارات القديمة، سواء في بلاد الرافدين أو في بلاد النيل أو الحضارة الصينية القديمة والحضارة الهندية القديمة، أو غيرها.
في كتاب "القوانين" يخضع أفلاطون القانون لصالح المجتمع أكثر مما يخضعه للأخلاق السامية المجرّدة. أما أرسطو ففي كتابه "السياسة"، فإنه يؤكد على ضرورة أن تكون القوانين رشيدة وتلائم "مجتمع الدولة".
كان المواطنون في بعض المدن اليونانية يتمتعون بحقوق المساواة أمام القانون Isnomia واحترام متعادل للجميع Isotimia وحقوق متساوية في التغيير Isogoria، وتلكم هي الحقوق الأساسية التي أصبحت معروفة في عالمنا المعاصر.
لكن ذلك لم يمنع التمييز بين السادة (النبلاء) وهم المواطنون والعبيد وفئة ثالثة هي المحاربون أو الجند. وقد اعتقد اليونانيون بتفوقهم على سائر الشعوب لذلك كانت الحروب والفتوحات هي أساس العلاقة مع الغير، الآخر، الأجنبي.
أما الرواقيون وهم الذين اهتموا بالكون والأخوة العالمية فقد حاولوا أن يربطوا هذه "الحقوق" بعقل الكائن البشري، في محاولة لتحجيم التمييز.
وفي العهد الروماني فقد كان التمييز بين ثلاثة طوائف:
1- المواطنون، وهم الرومان من سكان عاصمة الإمبراطورية.
2- الرومان خارج مدينة روما، ويطلق عليهم اللاتينيون، وإن كان لهم حق التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، إلاّ أن الأمر يتوقف على تجنيسهم.
3- البرابرة أو طائفة الأجانب، وهم سكان المناطق المحتلة الذين يخضعون للإمبراطورية الرومانية، فهؤلاء يتبعون لقانون خاص بهم يسمى قانون الشعوب Jus Gentium وهو يعتبر استمراراً لفكرة القانون الطبيعي اليونانية التي اقتبسها شيشرون من الفلسفة الرواقية، بالتأكيد على مبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه وفي الواقع فلم يكن رعايا الشعوب يتمتعون بأية حماية قانونية.
وفي القرون الوسطى وبعد تفتّت المجتمع اليوناني – الروماني، لعبت الكنيسة بإمكانياتها وتنظيمها دوراً كبيراً في تنظيم المجتمع، حيث قال القديس أوغسطين الذي عاش في القرن الخامس، وأنتج أعمالاً متميزة أن "العدالة الحقة" لا توجد في دولة ملحدة، مميزاً بين Concordia و Justicia أي بين "العدالة والحق".
وخلال فترة هيمنة الإقطاع ازداد ارتباط الفرد بالأرض بحيث أصبح الشخص تابعاً للإقطاعية التي يحكمها أمير أو سيد إقطاعي يملك الأرض ومن عليها. ففي هذه الحالة اختفى التمييز الذي كان سائداً بين المواطن أو الوطني والأجنبي، حيث كانت سلطة الإقطاعي تنسحب على سكان المقاطعة بكاملها، وكان حكم كل أجنبي أن يغادرها خلال فترة محددة بموجب أمر من الإقطاعي، لكن الأمر اتخذ منحىً آخر بصعود الأنظمة الملكية التي ألغت النظام الإقطاعي، وأصبح الأشخاص يرتبطون بالملك الذي يعتبر حاميهم والمدافع عنهم، في حين كانوا يدفعون له الضرائب ويؤدون الفروض العامة، مرتبطين بشخصه على نحو دائم وأبدي لا انفصام فيه. وقد اتسم عصر النهضة وبخاصة القرنين السادس عشر والسابع عشر باتساع ساحة الفكر السياسي والقانوني لمفكرين كبار مثل جان بودان في فرنسا وهوغو غروشيوس في هولندا وهوبز ولوك في انكلترا وغيرهم.
فقد اهتم بودان بفكرة السيادة في حين أعار غروشيوس اهتمامه للقانون الدولي ولفكرة الدولة والقانون، مؤكداً أن القانون الوضعي يخضع للقانون الطبيعي، وذهب هوبز إلى تأكيده على تلازم الحرّية والضرورة وينبغي على الحاكم أن يسدّ احتياجات الرعية.
أما جان جاك روسو الذي هيأت أفكاره للثورة الفرنسية وبخاصة كتابه "العقد الاجتماعي" ومونتسكيو وكتابه "روح القوانين"، فقد اتخذ اتجاهاً آخر، فحسب روسو في نظرية العقد الاجتماعي، أن للأفراد حقوق قبل أن يكونوا في مجتمع منظم، وأن بعض هذه الحقوق غير قابلة للتصرف وعلى الدولة مراعاتها ليس بسبب شروط العقد حسب، بل بسبب طبيعة الإنسان، في حين دعا مونتيسكيو إلى فصل السلطات باعتباره حجر الزاوية في تحقيق الحرية مشدداً موضوع الرقابة على السلطات، بينما أكّد روسو على مفهوم سيادة الشعب، وإذا كان الناس يولدون غير متساوين، فإنه بموجب العقد الاجتماعي يصبحون متساوين. وقد ذهب الفيلسوف الألماني كانط إلى تأكيد مفهوم الحرية الأخلاقية للإنسان ودور العقل مشيراً إلى إلزام الفرد ببعض التقييدات على حريته تأميناً لحرية الغير.
3 – الإسلام: جنينية الدولة والمواطنة
إذا كانت هذه المقدّمات ضرورية للتفريق بين حقوق المواطن وحقوق الأجنبي في موضوع الجنسية والمواطنة، فلا بدّ من وقفة سريعة عند تطوّر مفهوم المواطنة في الإسلام، خصوصاً في إطار الدولة العربية – الإسلامية، فالدولة في عهد النبي محمد بلورت وبخاصة عبر القرآن الكريم قواعد جنينية سياسية ودينية وقضائية لتنظيم المجتمع، كما ساهمت السنّة النبوية أي أحاديث الرسول في الإجابة على الكثير من الأسئلة التي كان يطرحها المجتمع الإسلامي.
وتطوّر الأمر في عهد الخلافة الراشدية وبخاصة في عهد الخليفة أبو بكر التي دامت نحو سنتين. وترسخت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سواءً ما يتعلق بقضية العطاء في الغنائم أم بامتيازات المواطنة وبخاصة المحاربين، حيث اعتمد الخليفة الأول مبدأ المساواة دون اعتبار للقدم والدخول في الإسلام أو القرابة من النبي أو البلاء في الحرب من أجل الإسلام، الأمر الذي خلق إحساساً اسمياً بالمساواة، شجع العديد من غير العرب على الالتحاق بالجيش الإسلامي.
أما أمور القضاء فقد جرى تقاسمها بين الخليفة عمر بن الخطاب وقضاة متخصصون عيّنهم لهذا الغرض، كما استحدث منصب مسؤول بيت المال، وسنّ عمر عدّة قرارات، منها مراتبية للإعطيات، كما أوجد ديواناً خاصاً بالجند، مشدّداً على مبدأ القِدَم في الإسلام، والبلاء في خدمته، والانتماء العربي كمعيار للمواطنة أو لمفهوم الجنسية المعاصر.
واتّخذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان التصنيف الذي اتبعه عمر بن الخطاب دليلاً للانتماء والمواطنة، بل زاد في تضييقه خصوصاً بشأن تفضيل دور قريش التي نالت حصة الأسد في إعادة التعيينات السياسية والعسكرية، وهو النهج الذي حاول الإمام علي التوقّف عنده، إلاّ أن اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين معاوية، أثّر في عناصر الاستقطاب والولاء، وقد شعر بعض الموالين بالغبن الشديد، بالرغم مما قدّموه للإسلام، فقد جرى "التمييز" بحقهم، في حين دعا الإسلام ويدعو إلى المساواة وفقاً لقول الرسول "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" و"الناس سواسية كأسنان المشط". وهؤلاء رغم "إسلامهم وإسهامهم في دفع الديات والمشاركة في القتال وفي الأمور العامة، فقد أُغلقت دونهم في القرن الأول للإسلام على الأقل الوظائف التي تعني الولاية لا غير، كالإمارة والقيادة والقضاء، وأن تولي بعضهم القضاء فقد ندر من تولى مناصب إدارية وعسكرية هامة".
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً يسعى لبسط نفوذه على العالم أجمع، إلاّ أنه رغم نزعته الإنسانية فقد كان ينظر إلى العالم في علاقاته الدولية انه منقسم إلى قسمين:الأول دار الإسلام والثاني دار الحرب، فالدار الأولى تعني الأقاليم التي يبسط المسلمون عليها ولايتهم، وتضم إلى جانب المسلمين أشخاصاً من غير المسلمين، وهم الذميون والمستأمنون. الذميون هم أهل الكتاب، فضلوا الاحتفاظ بديانتهم الأصلية مقابل دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتعون بالحماية والعيش بأمان، ولكن بشروط في كنف الدولة الإسلامية.
أما المستأمنون، فهم القادمون من دار الحرب إلى دار الإسلام أي إنهم "أجانب" دخلوا إلى دار الإسلام بإذن من الدولة الإسلامية سواءً كان لغرض التجارة أم غيرها. أي أن هناك فرقاً بين الذمي والمستأمن، فالذمي من رعايا الدولة الإسلامية، احتفظ بدينه مقابل الجزية والأمان، أما المستأمن فهو الذي جاء من دار الحرب لظرف خاص أو طارئ أو مؤقت، والمستأمنون ليسوا مواطنين أو من رعايا الدولة الإسلامية.
ودار الحرب هي التي لا تمتد إليها الولاية الإسلامية، ولا تُطبق فيها الشريعة الإسلامية، بل إن لها نظامها الخاص، وقد انعقدت بين دار الإسلام ودار الحرب معاهدات سلام أو هدنات وأطلق عليها (متعاهدة) أو أنها تكون في حالة حرب مع الدولة الإسلامية.
وإذا كانت هذه المقاربة لمفهوم وتطوّر الجنسية كوجهة نظر معاصرة لفكرة المواطنة أو الرعوية أو غيرها، فإن المفهوم الحديث للجنسية في العالم العربي، لم يظهر إلاّ في سنوات متأخرة بفعل الاحتكاك مع أوروبا وبقصد التمييز بين مواطني الدولة الإسلامية وغيرهم من الأجانب.
وإذا كان مصطلح "المواطنة" و" المواطن" citizen (أي الفرد المشارك في الشؤون المدنية والسياسية بحرية) غريباً تماماً في الإسلام على حد تعبير برنارد لويس فلم تعرفه اللغات العربية والفارسية والتركية، حيث يرجع ذلك إلى غياب فكرة المشاركة للمواطنة، وفكرة المشارك للمواطن، لكنّ هناك من يعتبر وجود المسلم رديفاً لكلمة المواطن الحديث، وهو المصطلح الإسلامي الذي يعني انتماء الفرد في بدايات المجتمع الإسلامي والتمتّع بعضوية كاملة وفورية في المجتمع السياسي بالمعنى الإيجابي للمواطنة النشطة على كونه مسلماً.
وكان الإسلام الأول وبخاصة في عهد النبي يولي اهتماماً كبيراً لرأي المسلمين، الذين كانوا يعبّرون في لقاءاتهم اليومية لخمس مرات (أوقات الصلاة) في مقر الحكومة أو البرلمان في الجامع (بمشاركة نسوية ملحوظة) عن تبادل الرأي والاستماع إلى رأي المسلمين والردّ على تساؤلاتهم، حيث كان بمقدور أي فرد إثارة أية قضية يرغب فيها، لكن توسّع وانتشار الدولة الإسلامية وامتداد سلطانها إلى أقاليم بعيدة وبخاصة العراق ومصر، اضطرّ هؤلاء إلى تصريف أمورهم بأيديهم بعيداً عن الرأي اليومي والحوار المستمر بين مركز الدولة وقيادتها العليا وبين المواطن، وتدريجياً بدأت البيروقراطية والمؤامرات السياسية تبعد المواطن (المسلم) عن المشاركة في تصريف أمور الدولة.
وظلت فكرة التمييز بين حقوق "المسلم" و"الغريب" أو "المقيم" من غير المسلمين مستمرة حتى العصر الحديث، حيث تداخلت ايجابيا لصالح الأخير بفعل ضغوط غربية للحصول على ما يسمى بنظام الامتيازات Capitulation من الدولة العثمانية للأجانب وبخاصة للمسيحيين، حيث كان الغرب يعلن الرغبة في توفير حماية خاصة لهم ورعاية مصالحهم الدينية والسياسية، وهو ما أعطى انطباعاً أحياناً بأن غير المسلمين الذين حظوا بدعم الغرب تجاوزوا خط الدفاع عن مبدأ المواطنة الكاملة أو المتساوية مع غير المسلمين، إلى الحصول على امتيازات تحت حماية القوى الأجنبية، علماً بأن حلف الفضول، الذي نعتبره مع الدكتور جورج جبور أول رابطة لحقوق الإنسان (590 – 595 ميلادية) أكّد على التزامات لفضلاء مكة المجتمعين في دار عبدالله بن جدعان، فحواها: أن لا يدعوا مظلوماً من أهل مكة (أي مواطن) أو من دخلها من سائر الناس (أجنبي) إلا ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق إليه، وقد تأسّس الحلف إثر ظلامة لحقت بتاجر يمني في مكّة، فاجتمع الفضلاء لنصرته.
ويعتبر حلف الفضول الحلف الوحيد الذي أبقاه الرسول بعد قيام الدولة الإسلامية من بين أحلاف الجاهلية، وقد جاء على لسان النبي يقول: شهدت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، لو أنني دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.
ربّما يعود جزء من ذلك إلى أن بعض المواقف الإسلامية لم تكن "توافق" أو تؤيّد فكرة إقرار مبدأ المواطنة الكاملة صراحة لغير المسلمين، وهو الموقف الذي انعكس لدى البعض من موضوع القوميات والأقليات الدينية والإثنية واللغوية والمذهبية أحياناً، ولعلّ موقف بعض القوى التقليدية المتشددة كان الأقرب إلى هذه المواقف، ونعني بها الموقف الملتبس والذي لا يقر مبدأ المساواة التامة والاعتراف بحقوق الغير في المواطنة الكاملة ضمن القواعد المعترف بها في القانون الدولي ولوائح ومواثيق حقوق الإنسان.
يمكن القول إن تطوراً بطيئاً حدث باتجاه إقرار حق المواطنة الكاملة لدى بعض المفكرين الإسلاميين، على الرغم من أن المسألة لا ترتقي إلى الحق الدولي المنصوص عليه في لوائح حقوق الإنسان، وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من المفكرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي وطارق البشري وسليم العوّا وأحمد كمال أبو المجد وراشد الغنوشي ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وغيرهم.
ورغم محاولات التجديد فإن الاتجاه الإسلامي السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة التي يقصرها على الانتساب الديني والإقامة، فالمسلمون غير المقيمين في الدولة الإسلامية وغير المسلمين المقيمين فيها لا يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، وربما يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، لكنهم لا يصبحون مواطنين بالكامل ولا يحق لهم تسلم مناصب رئيسية في الدولة مثل رئاسة الدولة ورئاسة القضاء ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش وغيرها.
أما التجربة الإسلامية، فيمكن التوقف عند الثورة الإسلامية الإيرانية التي أحدثت في العام 1979 انعطافاً جديداً استلام الإسلام السياسي للسلطة، حيث أنشأت مؤسسات متساوقة مع الموجة "الديمقراطية": برلمان وانتخابات رئاسة ومنذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية خرجت من مرحلة الثورة، لتدخل مرحلة الدولة، ولم يكن ذلك بمعزل عن صراع سياسي وفكري حاد داخل أوساط التيار الديني، وقوفاً ضد التيار الإصلاحي الذي قاده السيد محمد خاتمي، في ظل تصاعد موجة شديدة للتيار المحافظ الذي يحاول إحباط خطط التغيير والإصلاح... إلخ، لكن شرط الدستور الذي نصّ على التحدّر الفارسي واجه انتقاداً شديداً لاستثنائه المسلمين غير الفرس في الترشّح لرئاسة الجمهورية، ناهيكم عن الشروط الخاصة بولاية الفقيه أو مجلس صياغة الدستور أو تشخيص مصلحة النظام، وهو ما ينتقص من مبدأ المواطنة والمساواة.
أما التجربة الثانية فهي التجربة السودانية التي جاءت إلى الحكم عام 1989 وقد سارت نحو تقليص التعددية السياسية والفكرية والدينية واللغوية عملياً، لكن الدستور أقرّ في العام 1998 حاول الانفتاح باتجاه إقرار مبدأ المواطنة، بغض النظر عن الدين، لكنه ظل محافظاً من حيث الجوهر على الخصائص العامة لتوجهات الحكم الإسلامي، وهو على غرار دستور إيران يحتوي على بعض الشروط الإسلامية التي تقر بصيغة للمساواة النظرية دون أن ترتقي إليها فعلياً أو تقاربها.
ولعلّ تطوراً خطيراً حصل في مصر بعد ثورة 25 يناير العام 2011 والإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك، حيث نجح "الأخوان المسلمون" في الانتخابات وحاولوا "أخونة" الدولة و"أسلمة" الدستور، الأمر الذي أثار ردود فعل شديدة ضد هذا التوجه، فقد سعوا إلى قيام دولة دينية محكومة بالشريعة وإن كان بالتقسيط، ولأنهم كانوا أغلبية في لجنة صياغة الدستور، فقد حاولوا فرض توجههم، وبالفعل فقد تم الاستفتاء على الدستور العام 2012 في ظلّ هيمنة شديدة على المشهد السياسي التي كرّست نهج الإقصاء والانعزال الذي اتسم بالغرور وعدم الواقعية.
وهو ما دفع الشعب المصري لتصحيح مسار الثورة في 30 حزيران (يونيو) والتي توجت بعملية التغيير التي قادها الجيش في 3 تموز (يوليو) 2013. وهكذا تم إلغاء دستور الأخوان بعد استفتاء جديد على دستور آخر أعدّته لجنة دستورية متنوّعة ضمّت 50 عضواً، حيث تم عرضه على الاستفتاء في العام 2014 فحاز على الأغلبية الساحقة (98% من المصوتين الذين بلغت نسبتهم 38%).
أما في تونس، فعلى الرغم من أن حزب النهضة كان قد فاز بالانتخابات إلا أنه كان يخشى أن يتكرر معه المشهد الأخواني المصري، ولهذا السبب حاور وداور وناور لإبعاد شبح تنحيته، علماً بأن الدستور التونسي الذي تم إقراره في 26 كانون الثاني (يناير) 2014 يعتبر متقدماً على جميع الدساتير العربية، خصوصاً بإقراره صيغة الدولة المدنية، وكان ثمرة من ثمرات دينامية المجتمع المدني التونسي التي ضمّت بشكل أساسي اتحاد الشغل ونقابة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وفي العراق فقد تحوّلت الدولة العراقية بعد العام 2003 من دولة بسيطة إلى دولة مركّبة ومن دولة مركزية إلى دولة اتحادية " فيدرالية"، وذلك وفقاً لـ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية والدستور الدائم فيما بعد، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005. وعلى الرغم من أنه اشتمل على إيجابيات تتعلق بالحقوق والحريات ومبادئ المواطنة واستقلالية القضاء وتداولية السلطة وإقرار التعددية، لكن الألغام التي احتواها والقنابل الموقوتة التي في داخله يمكن أن تنفجر في أية لحظة، خصوصاً في ظلّ فشل العملية السياسية التي تأسست منذ الاحتلال إلى لحظة كتابة هذه الدراسة.
فحتى الآن ثمة عقبات جدّية داخلية وخارجية وقفت في طريق تحقيق المواطنة المتكافئة من أبرزها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي كرّسها الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر في مجلس الحكم الانتقالي، والتي تم تثبيتها في الدستور الدائم تحت عنوان "المكوّنات" وهي التي وردت في الديباجة (مرتان) والمواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى وجها آخر للصيغة الأولى.
وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية منها اليمن وليبيا وسوريا وآخرها في العراق ولبنان أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والسلم، إلى وضع الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
وفي الختام فإن أي مواطن معني بثلاث قضايا: علاقته بالدولة كيف تؤطر، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيراً مسؤوليته كعضو فاعل في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، باعتبار أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيه. وتتكوّن هويّة المواطنين من السمات المشتركة والجامعة خارج دائرة الأيديولوجيات والأديان والطوائف، وهي هويّة غير استناسبية وغير دوغمائية أو أيديولوجية، بل عفوية تلقائية صميمية، من خلال المشتركات والقيم التي يجتمع المواطنون عليها، وبالطبع فاللغة ركن أساس من أركانها والذاكرة المشتركة والتاريخ المشترك والدين والعادات والتقاليد والآداب والفنون التي نشأوا عليها.
أما صفة المواطنة فهي تلتصق بالمدنية وهو ما جاء في لسان العرب، فالوطن هو المشترك ومكان الإقامة، سواء ولد فيه الإنسان أم لم يولد، والمواطنة أساسها المعايشة والمشاركة في هذا الوطن، أي المشاركة في العيش معاً، والتي يترتب عليها مسؤوليات اجتماعية وثقافية تتجاوز مسألة الأرض، لأنها تشمل العلاقات ونمط العيش والتفكير والحقوق، ناهيك عن شكل من أشكال الارتباط في إدارة الشؤون العامة، وتحتاج هذه إلى برامج عمل ثقافية وتربوية وتعليمية لتحديد مكوّناتها وأسسها مثل: العلاقة بالمكان، العلاقة بالأشخاص الذين يسكنون هذا المكان، العلاقة بمن يحكم هذا المكان ويدير الشؤون العامة أي علاقة المواطن بالدولة وذلك جزء من ثقافة المواطنة التي ينبغي أن تنمّا من خلال تنمية فكرة الدولة وتعزيز مشروعيتها بسيادة القانون وشرعيتها من خلال رضا الناس ومنجزها التنموي.
اضف تعليق