ينفرد العراق في طبيعة ازماته بين الدول المأزومة في المنطقة، وربما العالم، أن الأضلاع الثلاثة للأزمات؛ الاطراف الخارجية اقليمياً ودولياً، والجهات السياسية الحاكمة، ثم القاعدة الجماهيرية؛ ملعب هذه الازمات، يتفقون على وجود الخصائص الايجابية العظيمة لهذه البلد المنكوب، فهو غني بالثروات، وغني بالعقول ايضاً، ومحظوظ بموقع استراتيجي...
ينفرد العراق في طبيعة ازماته بين الدول المأزومة في المنطقة، وربما العالم، أن الأضلاع الثلاثة للأزمات؛ الاطراف الخارجية (اقليمياً ودولياً)، والجهات السياسية الحاكمة، ثم القاعدة الجماهيرية؛ ملعب هذه الازمات، يتفقون على وجود الخصائص الايجابية العظيمة لهذه البلد المنكوب، فهو غني بالثروات، وغني بالعقول ايضاً، ومحظوظ بموقع استراتيجي، مع عمق ثقافي وحضاري يُحسب له ألف حساب، ولكن! عند نقطة الحل يتفرقون، ويخلفون بِرك من الدماء، ومئات من الثكلى والأرامل والايتام، ومعاناة لا تُحد.
الجميع يُثني على العراق، ويغبط أهله على ما فيه، حتى القادم من وراء المحيطات، مع ذلك؛ لا يشفع هذا الثناء، وهذه الصورة الجميلة في الحد من اندفاع العراقيين لوحدهم، و بسرعة غريبة نحو أزمات متتالية، لا يخرج من واحدة، إلا ويرى أخرى جاهزة امامه.
استذكر موقف عفوي ومثير لخبير بكسح الالغام استقدمته الحكومة العراقية من فيتنام، وكان واقفاً وسط منطقة منطقة سهلية خضراء يجيب على اسئلة احد المراسلين، وبدلاً من الاجابة على سؤال له، كان في حالة شرود ذهني وهو يجول ببصره على المساحات الخضراء، فقال فجأة: "يالها من أرض خصبة ورائعة بالامكان استثمارها والاستفادة منها في مجالات شتّى"!
والأنكى من كل ذلك؛ أن الجميع (الاضلاع الثلاثة) يقرّون بحالة الاستدامة لهذه الازمات كما لو أنها قَدَر هذا البلد، وهذا نلمسه يومياً من حديث الناس في الشارع، ومن على منصات التواصل الاجتماعي، وايضاً؛ من حديث "المسؤولين" وأهل الحكم، الى جانب الاطراف الخارجية التي تتحدث بشكل او بآخر عن أنها تسير في حقل ألغام. فمن أين جاءت هذه الوصمة على جبين العراق والعراقيين؟ وهل حقاً؛ هي قَدرَهم؟!
أولا: غياب الروح الايجابية
وحتى نكون ايجابيين في بحثنا لهذه النقطة (السبب)، ربما يكون روح التبرّم وعدم الرضا في كل شيء مردّه الى شعور متأصل لدى العراقيين بالاعتداد الزائد بالنفس، وضرورة الحصول على ما هو أفضل وأحسن الى حد المثالية، حتى وإن تسبب هذا في ضياع فرص، او التعرض لمعاناة الحرمان وخسارة الموجود.
وبعيداً عن العمق الحضاري، والتفاخر بالماضي، فان لُبنات هذا النمط من التفكير وضعت خلال القرن الماضي لتكون مادة بناء العلاقة بين المواطن والحاكم، او بين المجتمع والدولة في ظل حكومات قادمة من الثكنات العسكرية، فعندما يريد القائد العسكري أن يكسب محبوبية الجماهير ومن ثمّ الولاء المطلق، كان لابد له من زرع حالة العُجب بالنفس بين افراد الجماهير، من التلميذ الصغير في المدرسة، ومروراً بالمرأة في البيت، وحتى الكاسب والعامل والموظف والعسكري، وجميع شرائح المجتمع، و يوحي لهم بأنهم أبطال منيعين لا يطالهم أحد، وهم الأفضل والأرقى!
وقد كرّس هذا الوهم في النفوس، أقلام وخطابات "مثقفين" داخل وخارج العراق خلقوا للعراقيين تبريرات ومسوغات للحروب الكارثية التي خاضوها، سبب هزيمة نفسية مريعة، قبل الهزيمة العسكرية المُنكرة.
آثار الهزيمة النفسية خلقت شعوراً جديداً لدى الناس يوهمهم بواقع سلبي مليئ بالفوضى والفساد لا مفرّ منه، والغريب استمرار وجود تلكم الخطابات الثقافية وبلون جديد، وعبر وسائل اعلام جديدة تكرس هذا التصور والشعور من خلال زجّ الناس في حروب من نوع جديد في ظل "النظام الديمقراطي"، لتكون النتيجة التطيّر والتشاؤم حتى بهذه التجربة التي يفترض ان تكون باباً للفرج والخلاص من دوامة الازمات.
والمثير أننا نسمع من غير "مسؤول" تبرّمه من حالة عدم رضا الناس، أو عدم تثمينهم اتعابه وجهوده فحتى وإن "قلعت عيونك وأعطيتمهم إياه لن يرضوا عنك"! في حين ان من يتحدث عنهم هم الذين مكّنوه من المنصب والجاه والامتيازات تحت شعارات انتخابية زائفة، فحققوا له الفوز، بينما تحققت لهم الهزيمة النفسية الساحقة عندما وجدوا أنهم مايزالون في دوامة انقطاع الكهرباء، وسوء التعليم، وانتشار بيوت الصفيح، والبطالة والقائمة تطول.
ثانياً: إطفاء نور العلم في النفوس
بعد الحاضنة النفسية، يأتي العقل ونور العلم ليمكّن الشعوب والأمم من تجاوز ركام الحروب، وحتى النهوض من مخلفات الاستعمار؛ من أمية، وتبعية.
ولمن يرصد الواقع العراقي من الخارج يجد أن لا أزمة حقيقية تواجهه وتمنعه من أن يتقدم علمياً مع وفرة الامكانات المادية، حيث نرى أضخم المباني و أروعها، تشيّد للجامعات والمعاهد في العراق بعد 2003، ولو أن هذا لم يكن دليل اهتمام الدولة الجديدة بالتعليم بشكل عام، لوجود مئات المدارس الطينية، والاخرى الآيلة للسقوط حتى الآن، الى جانب النواقص والازمات في المباني المدرسية، هذا غير المشاكل المعقدة في المناهج، وفي طرق التدريس، وفي الكادر التعليمي نفسه.
لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن ثمة إصرار على زرع اليأس والاحباط في نفوس الطالب العراقي، من التلميذ الصغير في الصف الاول الابتدائي، مروراً بطلبة الاعدادية، والى طلبة الجامعة، وتركيع العالم والاستاذ، وتشويه صورته أمام المجتمع والعالم، وانتزاع صفة العلمية منه واستبدالها بالصفة الوظيفية، و ربما تكون الانطلاقة الاقوى لهذا المسعى من أول طالب جامعي من حملة الشهادات العليا سقط على الارض بفعل خراطيم المياه، وليتحول فيما بعد الى شرارة الاحتجاجات الشبابية في وسط وجنوب العراق.
أحد التدريسيين في الجامعة عزا سبب وجود الطالب بين عوامل الازمة، بدلاً من أن يكون عاملاً للحل والتغيير نحو الافضل، في هوس الكثير بالدرجات العالية الى حد ال"100" فمن يكثر هذا الرقم في شهادته فهو في "عليين"، وإلا فانه لا يشعر بأقل من الهزيمة النفسية التي دفعت بالبعض الى الانتحار هروباً من العار! ولعل هذا الشعور فرع آخر من الشخصية العراقية التي لا ترضى بالقليل، وانها الأكمل والأفضل.
ثالثاً: تعدد الأوطان في الوطن الواحد
تكثر الامثال والعِبر عن الضرورة الحياتية لتنمية الشعور الجماعي بالمسؤولية و المصير المشترك، بيد أنها، مع كثرة مصاديقها على ارض الواقع، تبدو مجرد حكايات الاجداد عند المساء، عندما تغلب عليها مشاعر الأنا والمصالح الخاصة، فالازمات والمشاكل، عنوان عام لما يجري في العراق، أما التفاصيل على ارض الواقع فهي مشكلة عدم وجود تخصيصات مالية لمباني حكومية، ثم الحصول عليها بالمليارات في مدينة ما، وفي مدينة اخرى تفتقر بيوت الناس الى سقف يحميهم من حرارة الشمس ومطر الشتاء، ويجب على التلاميذ هناك قطع مسافات بعيدة في طرق الوحل للوصول الى مدارسهم الطينية، أو توفر الأمن لتلك المدينة، وترك الاخرى نهباً للاحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، او توفر فرص العمل والتجارة في هذه المدينة دون غيرها، يكفي أن نعرف أن مدينة عراقية تحظر على الباعة المتجولين القادمين من خارج المدينة للترزق فيها، بل و حتى الأطراف الصناعية في ورشة باحدى المدن يقول المسؤول عنها في حديث ملتفز بأن "الاسعار مدعومة لابناء المدينة (....)" قبل ان يذكر ابناء سائر المدن من المعوقين المحتاجين للاطراف الصناعية.
مشاعر التملّك والحيازة والتفوق وغيرها من النزعات النفسية، يتم تغذيتها من اطراف عدة؛ خارجية وداخلية تخدم اهداف اقتصادية وسياسية كبيرة.
هذه الاسباب وغيرها تكشف عن عدم وجود مشكلة أو ازمة حقيقية في العراق، وإن كانت هنالك اطراف تغذي وتدفع، إنما المشكلة ذاتية بالدرجة الاولى، لنأخذ ابسط مثال في أزمة الكهرباء المعقدة والمستعصية والتي باتت مستحيلة على الحل، فان أول ظاهرة يمكن ملاحظتها في الشارع العراقي من الشمال الى الجنوب؛ عدم شعور شريحة كبيرة من المجتمع بالمسؤولية إزاء خط الطاقة الكهربائية النازل من شبكة الكهرباء الحكومية، وتجاهل الحاجة مطلقاً الى جهاز المقياس، هذا بغضّ النظر عن قلة او كثرة التجهيز الحكومي من الكهرباء، فقد جاءت فترات طويلة خلال السنة الواحدة يكون فيه التجهيز أقرب الى الدائم، مع ذلك لا يجد الكثير دافعاً لتقديم طلب لجهاز مقياس للبيت الذي يضم سخان ماء كهربائي، وأجهزة تدفئة وتبريد.
وكذا الحال بالنسبة للتعليم، فان الدول المتقدمة من زمرة "الدول النامية" مثل الهند والصين، أولوا أمر التربية الاخلاقية والنفسية قبل التعليم، فصار الخريج من أي جامعة او معهد يمثل عنصراً منتجاً ومبدعاً في بلده، لان همّه تقديم الافضل للصالح العام، وليس لمصلحته الشخصية.
إن القناعة والتكافل والتعاون والصبر وغيرها من القيم والمبادئ التي تنمو في نفس كل انسان، من شأنها ان تكون الحجرة الصلدة في القاعدة الجماهيرية الحاضنة للتطور ولأي مبادرة للتغيير الحقيقي، بل والتقدم الى الامام.
والى ذلك ذهب مفكروا النهضة في بدايات القرن الماضي، من أن الاستعمار لن يجد موطئ قدم له لولا وجود "الارضية الصالحة لتقبل الاستعمار"، ويبدو هذه الارضية موجودة حتى الآن، لاستعمار من نوع جديد، فيما تقدمت شعوب وتطور بلدان؛ علمياً، وتقنياً، واقتصادياً، كما تطورت البلدان ذات العلاقة بنا، في هذه المجالات ايضاً، ربما بفضل هذه الدوامة من الازمات التي ندور فيها دون إرادة منّا للخروج منها.
اضف تعليق