q
في حديث مباشر مع الدكتور برهم صالح في تشرين الاول من عام 2017 بالسليمانية لدى تضييفه لي في مقر الجامعة الأمريكية التي أسسها في المحافظة، وكانت المظاهرات مستمرة في المدينة بسبب قطع حكومة أربيل رواتب الموظفين فيها، سألته لماذا نرى أغلب الاحتجاجات الكردية تنطلق من السليمانية دون غيرها نسبياً...

في حديث مباشر مع الدكتور برهم صالح في تشرين الاول من عام 2017 بالسليمانية لدى تضييفه لي في مقر الجامعة الأمريكية التي أسسها في المحافظة، وكانت المظاهرات مستمرة في المدينة بسبب قطع حكومة أربيل رواتب الموظفين فيها، سألته لماذا نرى أغلب الاحتجاجات الكردية تنطلق من السليمانية دون غيرها نسبياً من محافظات الاقليم فقال: السليمانية مثل الناصرية شديدة الغضب وحسّها الاحتجاجي تاريخي، ردة الفعل على الشعور بالظلم تكاد تبرز فيها من بين المحافظات الأخرى.

ظلّت هذه العبارة التي قالها في سياق حديث طويل عام متشعب في ذهني وأنا أسترجع تاريخ السليمانية السياسي وما تعرضت له من وحشية وظلم وقساوة في تاريخها، فيما بدت أخيراً من بين مدن العراق الآمنة مئة بالمئة بسبب الإجراءات السياسية والأمنية التي حدّت من العداء بين القديم والجديد، مدينة تحولت بمجملها الى عشيرة تحتفي بشجعانها وتاريخها النضالي وحلمها اللامحدود بالتحرر، التحرر من القريب والتحرر من البعيد، والتحرر بمفهومه الكوني والإنساني ، وهو ما أضفى على أيام مهرجان السينما السنوي الذي دعينا له ذاك العام بندواته وأفلامه ولقاءاته طابعاً نضالياً ابداعياً متداخلاً.

في تلك الأيام كانت القصة باختصار أن حكومة أربيل لا توصل استحقاق السليمانية المقرر من حصة الإقليم في الموازنة الاتحادية. مما عطّل الحياة الاقتصادية في المحافظة وهي مشكلة مزمنة في المحافظة بسببِ هذا الامتناع المتتالي عن دفع الرواتب لأسباب سياسية، ولذلك كانت النقمة الشعبية فيما مضى تنصبّ فقط على حكومة أربيل وحزب البارزاني تحديداً، وكان الناس يذهبون لوظائفهم دونَ أن يتقاضوا رواتب، ويخرجون في التظاهرات مساء كلّ يوم ضد حكومة الاقليم.

وقد تحدث مسؤولون كرد من السليمانية في حينه عن مقترحات سابقة قدمت أيام حكومة المالكي بتقسيم حصة كردستان في بغداد، وأن تمتع السليمانية بحصتها من الخزينة المركزية مباشرة ـ وهي فرصة كبيرة لحكومة المالكي انذاك أن تمسك بعتلة مهمة في ماكنة السياسة الكردية التي يتحكم بها مسعود البرزاني بشمولية بارزة، لكن تردد حكومة بغداد المقيدة بعوائق الغرماء الشيعة المشاركين فيها، ضعف السلطة المركزية امام حكومة اربيل، ودعاوى كردية بان هذا تدخل يؤدي الى تقسيم كردستان حال دون ذلك.

اليوم وبعد الانسجام النسبي بين الحزبين الكرديين وحصول مسؤولين في الاتحاد الوطني الكردسناتني ومنهم ابناء الرئيس الراحل جلال الطالباني على مناصب رفيعة في اربيل، وفي ظل ما يقال عن تصدير للنفط واستقلال مالي واداري وفساد الطبقة الحاكمة في الاقليم فضلا عن ملفات فساد خطيرة تتصل باستيراد البضائع عبر المنافذ الحدودية وارتفاع نسب الضرائب، فان شعب السليمانية راح يتهم الحزبين الرئيسيين ومعهم حتى حركة التغيير التي كانت مواقفها معارضة الى أن دخلت في طاقم السلطة ومنهم اليوم وزير مالية حكومة كردستان هؤلاء جميعا استهدفهم الشعب المحتج متهما اياهم بالتواطؤ والفساد والاثراء على حساب مصالح الناس وهو ماأوصل الاحتجاج الى هذا المستوى من التظاهرات الغاضبة التي ادت الى إحراق مقراتهم معا. لكنّ الأمرَ هذه المرة لايقف عند حدود مشاكل محلية ومطلبية فقط بل هو التهاب أعصاب شعبي يعم العراق كله بعد سبعة عشر عاماً من الفشل السياسي مع الفوارق النسبية بين منطقة وأخرى، ففي الوقت الذي شهدت فيه منطقة كردستان العراق إعمارا وحركة استثمار.

الى جانب انهيار الحياة العامة من خدمات ومعيشة وفساد في مناطق العراق الاخرى، لم يحظ المواطنون الاعتياديون بالحياة الكريمة او البسيطة في اقل تقدير على مساحة العراق كلها، لذلك ما يحدث اليوم هو امتداد رفض شعبي واسع للاداء الحكومي وتعرية الفساد لدى الطبقة السياسية الحاكمة في العراق جميعها، ولعل مستوى القمع الذي تواجهه التظاهرات في السليمانية وماواجهته في المناطق الجنوبية تشير الى ان الطبقة السياسية فهمت الرسالة بالمقلوب، واختارت العلاج الخطأ وهو الاجراء الامني فقط مما سيعمق المواجهة بين الطرفين، مواجهة عراقية شعبية شاملة لن تنفع معها اساليب القمع ولا التهدئة المؤقتة ولا تأليب متظاهرين ضد بعضهم و خدعة الانتخابات غير النزيهة ، لان المطالب السياسية هذه المرة مرتبطة بحياة الناس المعيشية وما يحدث هو بدافع الفقر والانتقام من مسببيه، واية معالجات غير حكيمة في هذا الاتجاه ستدفع الى التصعيد المفتوح، لان الخداع السياسي لن يوقف الفقر، والفقر هذه المرّة هو قائد التغيير في العراق.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق