خلاصة القول: إننا نتمكن كدول عربية من إفشال مشروع تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وذلك عبر تغيير إستراتيجية التعامل مع حقائق التنوع الديني والمذهبي الموجودة في الفضاء العربي. بحيث يتم التعامل على قاعدة الاحترام والشراكة الوطنية، التي لا تميز أو تفرق بين انتماء وآخر في الدائرة الوطنية
حين التأمل في طبيعة الأحداث والتحولات التي تجري في المنطقة اليوم، ندرك أن المنطقة بأوضاعها الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية، دخلت في مرحلة جديدة؛ حيث اجتازت دول المنطقة اليوم مرحلة سعي القوى السياسية سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية، من مرحلة العمل على تفكيك الأنظمة السياسية، وإحلال قوى سياسية جديدة محلها، إلى مرحلة العمل على تفجير المجتمعات العربية من الداخل، مستفيدة من طبيعة التناقضات والتباينات الموجودة في المجتمعات العربية.
بمعنى أن اللحظة الراهنة التي تعيشها المنطقة، هي لحظة انفجار الهويات الفرعية سواء أكانت دينية أم مذهبية أم قبلية أم مناطقية، وسعي أطراف كل هذه الهويات الفرعية نحو التعريف بذاتها انطلاقا من انتمائها الفرعي.
فأضحى الإنسان المسلم السني، يعرف نفسه بوصفه سنياً، وذات العمل يقوم به المسلم الشيعي، وهذا ما يجري في مختلف دوائر الانتماء الفرعي المتوفرة في المجتمعات العربية.
ولا ريب أن هذه العملية المشحونة بأدبيات الهويات الفرعية، لها تأثيرات حقيقية على كل النسيج الاجتماعي العربي، فالدول التي كانت تعيش الوحدة والاستقرار وتتعامل مع مواطنيها بوصفهم مواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ومناطقهم، أضحى الجميع يفكر بدائرته القريبة، ويرى أن هذه الدائرة القريبة لها كامل الحق في التعبير عن ذاتها كما تشاء، وأنها تستحق موقعا في الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ليس على قاعدة إثراء الحياة الوطنية والاجتماعية، وإنما على قاعدة زحزحة بعض الدوائر الاجتماعية المنافسة، لصالح انتمائي الخاص.
ونحن هنا لا نقول إن هذه المسألة، أصابت دائرة انتماء محددة، دون بقية الدوائر، وإنما هي أصابت الجميع، وكل الدوائر وفق عناصر قوتها الذاتية عبرت عن أهدافها وغاياتها، فالجميع أضحى يبحث عن خلاص فردي لجماعته الخاصة، وضاعت في معمعة هذا الجدل الصاخب كل عوامل الاستقرار وأسباب حماية النسيج الاجتماعي من كل عمليات التآكل الطارئة والتي زحفت على كل الدوائر.
ولا ريب أن أول ضحية لهذا التفكير والممارسة العملية، هو وحدة المجتمعات والأوطان، فبدل أن تفكر هذه المجتمعات في وحدتها الداخلية، أضحت مهددة بانفجار هوياتها الفرعية وتهديد وجودها واستقرارها الاجتماعي والسياسي.
ولعل بروز الصراعات الطائفية التي تجتاح المنطقة اليوم، هو أهم تجليات المشروع الجديد الذي يستهدف تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وتحويل كل الهويات الفرعية فيها، إلى عامل لهدم استقرارها ووحدتها الداخلية.
ولو تأملنا في حال بعض المجتمعات العربية التي تعيش الفوضى وحالة الاحتراب الداخلي أو الأهلي الذي يسفك الدماء فيها، ويتم تفجير وتدمير بنيتها التحتية والأساسية لوجدناها من جراء تحريك ملف الانتماءات الفرعية، وتحويلها من انتماءات طبيعية ينبغي أن تحترم وتقدر، إلى انتماءات تعبر عن ذاتها وفق النسق السياسي والعسكري الذي يبحث عن مصالح هذه الدوائر دون الدائرة الأوسع، وبدل نسج علاقات الشراكة والتضامن الداخلي بين مختلف المكونات والتعبيرات، تم تفجير هذه الخلافات والتناقضات، وأضحت غالبية دول المنطقة تعاني في وحدتها واستمرارها كدولة واحدة ومجتمع واحد يحتضن كل هذه التعدديات والتنوعات.
وإزاء هذا المشروع الخطير، والذي بدأ من الناحية العملية بتهديد كل دول العالم العربي عبر تفجيرها من الداخل، بحيث يكون لكل هوية فرعية دولة وكيان مستقل، يعيش حالة من العداوة والخصومة مع الكيانات الاجتماعية الأخرى التي تشكلت وفق هذا المنوال.
نقول إنه إزاء هذا المشروع، ثمة ضرورة عربية للتفكير في مخاطر هذا المشروع، والسعي لبناء رؤية ومشروع عربي قادر على معالجة المشكلات الطائفية والمذهبية والعنصرية والجهوية على قاعدة استمرار الوحدة وصيانة المنجز التاريخي.
وهذا بطبيعة الحال يتأتى من خلال النقاط التالية:
1. لعل غالبية الدول العربية ارتكبت خطأ تاريخيا بحق نفسها وبحق الواقع العربي المتنوع والمتعدد. وذلك بسبب تعاملها مع حقائق التنوع الديني والمذهبي المتوفرة في الواقع العربي بعقلية النبذ والاستئصال والطرد من مساحة الوطن الذي يحتضن الجميع. لذلك فإننا نعتقد أن غالبية الدول العربية المعاصرة لأسباب عديدة في أغلبها ذاتية، لم تتمكن من التعامل مع حقائق تنوعها الاجتماعي، بعقلية حضارية، قادرة على استيعاب كل هذه التعدديات ودمجها في متحد وطني جديد.
وبفعل هذه النزعة الاستئصالية التي تحكمت في العديد من أجهزة الدول في التعامل مع تعددياتها، برزت المشكلة الطائفية بمستويات متفاوتة في أغلب الدول العربية، وما نعيشه اليوم هو نتاج طبيعي لكل عمليات الطرد والاستئصال التي مارستها أجهزة الدول العربية مع حقائق تنوعها بكل مستوياته.
لذلك فإن الخطوة الأولى لإصلاح هذه الأوضاع، هي بناء رؤية عربية جديدة في طريقة التعامل مع حقائق التعدد والتنوع الموجودة في العالم العربي.
وهذه الرؤية الجديدة ينبغي أن تبنى على استبدال سياسات الطرد والاستئصال بسياسات الاستيعاب والمساواة والمشاركة.
وإن حقائق التنوع ليست عيبا يجب إخفاؤه من النسيج الاجتماعي والسياسي. كما أن هذه الرؤية الجديدة ينبغي أن تعمل على تظهير البعد الوطني الذي يجمع الجميع ويحتضنهم ويدافع عن مصالحهم ومكاسبهم.
أحسب أن هذه العناصر الأساسية، هي القادرة على تحويل حقائق التنوع والتعدد من مصدر للقلق السياسي إلى مصدر للاستقرار الاجتماعي والسياسي، فسياسات الاستيعاب والشراكة والمواطنة الواحدة والمتساوية في آن، هي القادرة على حماية الوحدة وتعزيز أسباب الاستقرار وإفشال مشروع تفجير المجتمعات العربية من الداخل.
2. حينما تتحول بعض الدول إلى طرف في الصراعات المحلية، فإن هذه الدولة ستتحول من مصدر للوحدة وضمان مصالح الجميع، إلى مؤسسة كبيرة ترعى انقسام المجتمع الواحد ودخوله في حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية.
لذلك فإننا نعتقد أن تطوير بنية الدولة العربية المعاصرة، بحيث تكون دولة لجميع المواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، هو الحل الأمثل الذي يخرج العالم العربي من وقائع التشظي التي بدأت بالبروز في أكثر من دولة ومجتمع.
3. حينما يغيب المشروع الوطني الجامع والمحتضن لكل حقائق التنوع والتعدد، تبرز الانتماءات الفرعية بنزعتها الاستقلالية والانفصالية.
لذلك في كل دولنا العربية، تحتاج اليوم إلى مشروع وطني متكامل وشامل، وقادر على استيعاب كل حقائق التنوع وإشراكها في الإطار الوطني بدون أية نزعة تعمل على استخدام الغطاء الوطني للانتصار لانتماء على حساب بقية الانتماءات.
فليس جديدا حينما نقول إن مجتمعاتنا متنوعة ومتعددة وفي ذات الوقت نحن نطمح إلى الوحدة وبناء أوطان قوية وصلبة.
أمام هذه الغاية النبيلة ثمة ضرورة لاحترام كل هذه التنوعات عبر مشروع وطني يستوعب الجميع ويحترمهم وتصان خصوصياتهم بالقانون.
والأوطان الصلبة لا تبنى إلا بالوحدة المبنية عل احترام التنوع، وبإشراك جميع أبناء الوطن في الحياة العامة.
وخلاصة القول: إننا نتمكن كدول عربية من إفشال مشروع تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وذلك عبر تغيير إستراتيجية التعامل مع حقائق التنوع الديني والمذهبي الموجودة في الفضاء العربي. بحيث يتم التعامل على قاعدة الاحترام والشراكة الوطنية، التي لا تميز أو تفرق بين انتماء وآخر في الدائرة الوطنية.
عبر هذه الاستراتيجية نحافظ على مكاسبنا التاريخية، ونتمكن من هزيمة مشروعات كسرنا من الداخل عبر تفجير تناقضاتنا الداخلية.
اضف تعليق