لا نرى اليوم سفارات تابعة للدولة العراقية، أنما مقرات لأحزاب تابعة للدولة العميقة يقودها سفراء تمت تسميتهم وفقا لنظام المحاصصة الحزبية أو العائلية، لأن الدولة العراقية مصابة بمرض الوهن المزمن. وهذا هو سر وجود جيش من الموظفين يحملون جينات رئيس الحزب وأقربائه ومقليديه...
صعق النجم الكوميدي عادل أمام عندما اكتشف أن المبنى الذي يقطنه في القاهرة هو مقر السفارة الإسرائيلية. وطبعا الحادثة ليست حقيقية، فهو فلم سينمائي كوميدي مليء بالمفارقات والسخرية. فقد تحول الفيلم إلى قضية رأي عام في شوارع المدن العربية. وتصاعد منسوب الحماسة الوطنية بتعالي الأصوات بقوة (كلا .. كلا إسرائيل). كان هذا في عام 2005 وهو تاريخ إنتاج الفلم. ومابين تاريخ الإنتاج وعام 2020 حدث ما كان متوقعا. إسرائيل تتجول في مدننا العربية، ونحن نتجول فيها ونستمتع بجمالها ومستوطناتها المسروقة. فقد نسينا ملكية الأرض والتاريخ. ومع ذلك فالسياسة لها أحكام ومصالح. والذاكرة لم تعد تعمل بمقياس الحقوق، إنما بمقياس حركة الزمن والواقعية.
ولكل سالفة لها رباط، ورباط الكلام في هذه القصة، ليست سفارة إسرائيل والتطبيع بالطبع. هي قصة سفاراتنا العراقية وتطبيعها مع الجهل والفساد الذي يستشري في خطوط إنتاج عملها التنظيمي والإداري. فهي تنتج لنا بيضا عفنا بمواصفات السياسة العراقية الفاسدة. وهذه السياسات هي نتاج أحزاب لا تقرأ ولا تكتب، لا بالعربي ولا باللغات الأجنبية.
لذلك لا نرى اليوم سفارات تابعة للدولة العراقية، أنما مقرات لأحزاب تابعة للدولة العميقة يقودها سفراء تمت تسميتهم وفقا لنظام المحاصصة الحزبية أو العائلية، لأن الدولة العراقية مصابة بمرض الوهن المزمن. وهذا هو سر وجود جيش من الموظفين يحملون جينات رئيس الحزب وأقربائه ومقليديه.
مما يجعلني ادعو وزارة الخارجية إلى أهمية فحص الحمض النووي ل (دي أن أي) لجينات العاملين دوريا، ملخص القصة، إن السفارة العراقية هي مجتمع الدولة المريضة القائمة على نظام المحاصصة الحزبية بغض النظر على الكفاءة والتميز والجودة. مثلما هي بؤرة للصراعات الخفية بين العاملين على القوة والنفوذ والقومية والمذهب. فالسفارة هي صورة مصغرة لدولة الأم المريضة بصراعاتها ومؤامراتها وطائفيتها وأنظمتها الإدارية المتخلفة. لذلك ما عدنا نتحدث اليوم عن الوطن إلا تحت خيمة الحزب.
وماعاد السفير إلا ناطقا باسم حزبه. بل الأخطر إن الكثير منهم منقسم الولاء للدول والأحزاب والمذاهب والقوميات. هو يشبه الانشطار النووي الذي يتحول إلى عنصر آخر يولد إشعاعات ملوثة خطيرة في الولاء والعمالة. كيف يمكن تصور سفير عراقي يحمل جنسية البلد الذي يعمل به يدافع عن دولة العراق؟ أنظروا كيف تتقسم الولاءات في سفارة واحدة تنطق باسم العراق ؟!!
والقصة لا تنتهي إلى هذا الحد. فهناك قصص مخجلة وحزينة وبائسة يندى لها جبين العراقي الشريف. فيها ما يضحك وما يبكي، وفيها من الغرائب والعجائب لا تجدها حتى في بلاد الواق واق. فقد نشرت سفيرة العراق في دولة أوربية مؤخرا فديو عن كيفية عمل الزردة! وباع (دبلوماسي) عراقي في لندن بطاقة دعوة موجهة له لحضور حفل سنوي في قصر بكنغهام بثلاثة الاف باون.
والكثير من رؤساء البعثات جعلوا من السفارات أسواقا للتجارة والصفقات المالية، ومراكز اقتصادية لأحزابهم، من المسؤول لهذا الانحدار المخزي لسفاراتنا؟ سؤال لا يحتاج إلى تطبيق قوانين الرياضيات والفيزياء والإحصاء للوصول إلى النتائج. بل نحتاج قليلا من العقل مع قليل من الصبر. فنحن هنا ننطق بالحكمة لا بالنقمة. فلا يهمنا من يكون في هذه السفارات، بل من الذي جاء بهم ووضعهم على كرسي الدولة العراقية!
يبدو أن العبرة والأعمال بالخواتيم مثلما يقال. فهناك منطقية في تحليل النكسات العراقية، فالنكسات والويلات ليست إلا خواتيم لما حدث للعراق منذ الاحتلال عام 2003 من نكسات وأحزان وفقر وجهل وتجهيل. هي خواتيم فكر وسياسات ونخب فاسدة وجاهلة وطائفية تكره الوطن وتحتقر المواطن. هي عدو العلم وصديقة الخرافات. لذلك فالنتيجة منطقية في جداول وإحصائيات العلم: إن البيئة السياسية الفاسدة تخلق السفارة المتخلفة. وبمنطق الطب، الدم الملوث بالسرطان سيلوث الجسم وخلاياه. وهذا هو سر خريطة التخلف التي تتوسع سرطانيا دون القدرة على تنشيط خلايا الدولة ومؤسساتها بدواء الإرادة والتغيير.
كيف يمكن لهذه الدولة المصابة بالوهن وسرطان التخلف أن تأتي بوزير متحضر يعرف سر خارطة العالم. هل نسيتم وزيراً يجهل تاريخ بلاده يقول في احدى تخاريفه بأن نهر دجلة والفرات ينبعان من إيران؟ وكيف حول الخارجية إلى إقطاعية عائلية حتى سميت بـ (وزارة العائلة)، واقصى عددا كثيرا من الدبلوماسيين على أسس طائفية وحزبية وقومية.
بالمقابل أيضا، تشير الوقائع والدلالات إن معظم من استوزر للخارجية لم يشف من مرض العائلة والأقرباء ورفاق الدرب والعقيدة. فأسسوا لوبيات متحركة بمصالح مشتركة. وإقطاعيات مستوطنة بالاسم والقبيلة والقومية والحزب والمذهب. فأنا كمواطن اعرف من هو(صاحب) السفارة في السويد أو السفارة في بريطانيا وهكذا. لكن قول الحقيقة من جانب آخر مطلوب، فالوزير أيضا يسير في الغام الأحزاب والقوى المتنفذة. وموقعه مرهون بتنفيذ الأوامر، وتحقيق المطالب والرغبات للآخرين. هو وزير يتحرك بالرويمت بأوامر من الداخل والخارج في دولة بلا هوية وانتماء واستقلال!
وللأنصاف نقول بأننا سمعنا صراخ البعض ضد واقع الوزارة وطريقة التعيينات. وقالها بقوة من إن هناك سفارات فائضة ودبلوماسيين بالمحاصصة والمحسوبية، وتعيينات حزبية وخروج على نص قانون الخدمة الخارجية وترهل دبلوماسي. وهناك من الدبلوماسيين قد عينوا دون المشاركة في دورات المعهد الدبلوماسي. وتم فتح سفارات وممثليات للعراق ليس لها تمثيل في العراق أو ليس لدينا فيها جاليات، ولاتربطنا بها مصالح مشتركة.
لم يصدمنا الوكيل السابق لوزارة الخارجية، محمد الحاج حمود عندما قال إن الأحزاب والكتل السياسية تفرض سفراء على الوزارة، اغلبهم جهلة ومزوِّرو شهادات. بل الصدمة الكبيرة عندما قالها في لقاء متلفز: سألت أحدهم عن سبب زيارته للوزارة فقال لا أعلم، فقط أخبروني بأنني لدي مقابلة.
أشياء كثيرة تفطر القلب، وتزيد المآسي حزنا كبيرا. موارد مالية كبيرة تهدر بالمليارات لسفارات تبلغ 82 سفارة لا تقدم ولا تأخر إلا القليل منها. هي أكثر من سفارات الدول المتقدمة عددا. ومع ذلك جوازنا العراقي في آخر ترتيب الدول، والمواطن العراقي لا يستطيع الدخول إلى أصغر وأفقر دولة في العالم. محاصر ومنبوذ من جميع الدول التي تقيم فيها سفاراتنا. ومع ذلك تصر الخارجية على فتح السفارات والقنصليات. الكثير منها مجهولة النسب والفائدة. كينيا فيها عدد من العراقيين لا يتعدى الخمسة أشخاص، وليس معها تبادل تجاري، ومع ذلك للسفارة ملاك كبير. كذلك الحال في هانوي عاصمة فيتنام والسينغال وبريتوريا عاصمة جنوب إفريقيا، وغيرها من الدول الأوربية والأفريقية والأسيوية التي تضحك علينا بالهمز واللمز. ومع ذلك لا تتعجبوا عندما أقول إنني قلق من المستقبل إن يكون لبغداد سفارات في البصرة والأنبار وأربيل!
أما سفراء العراق، فهي قصة أخرى، اقوى من جميع نوادر جحا سفير السخرية والضحك. فالسفير العراقي يتعين بلا شروط، والشرط الوحيد هو حزبه أو عائلته. أما اللغة والاختصاص والكفاءة والتجربة والشهادة فهي من معوقات التعيين.
فلاعجب أن نرى طبيبا بيطريا يصبح سفيرا ثم وكيلا للوازرة، وبائع خضروات وحارس مطبعة وصاحب سوبر ماركت وراعي غنم، وحملة اختصاصات علمية لا علاقة لها بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية يتحولون إلى سفراء في عمارة عادل امام!
هل سمعتم بقصة (البنجرجي) الذي أصبح سفيرا في موريتانيا وهو يتجول في دشداشة النوم في فنادق نواكشوط مع مطربة موريتانية كطاووس ينفش ريشه بكبرياء ومباهاة، وهو يستمع إلى أغنية كاظم الساهر زيديني عشقا؟
بالله عليكم. هل يستحق هذا الوطن سفارات تشوه ما تبقى من جمال عراق التاريخ والثقافة والفن في الخارج، مثلما شوهوه في الداخل، وعاثوا في الأرض فسادا؟
انه الغرق الحقيقي لوزارة السفراء والدبلوماسيين. والطوفان الأكبر لوطن يحكمه جهلة.
اضف تعليق