q
الصراع الإقليمي والدولي، والتخندق الطائفي والعرقي عملا على نفخ شيء من الحياة في جسد هذه التجربة الفاشلة في الحكم مما ساعد على استمرارها طيلة السبعة عشر سنة الماضية، ولكن هذا الحال لا يمكن ان يستمر الى الابد، فجميع المؤشرات تنبئ بأحداث صعبة للغاية وعواقب وخيمة تنتظر العراق...

تقترب تجربة الحكم في العراق بعد سنة 2003 شيئا فشيئا من تجربة الحكم في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وهناك خشية كبيرة من ان ينتهي مصير التجربة العراقية الى ما آل اليه مصير التجربة الألمانية. ولتوضيح الرؤية أكثر نحتاج الى الوقوف على المعالم العامة المحددة لمسار التجربتين:

المانيا ما قبل النازية

اعتمدت المانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى على ما يمكن تسميته بالديمقراطية غير المستقرة والتي مثلها نظام حكم جمهوري برلماني فدرالي فصلته نصوص دستور جمهورية فايمار لسنة 1919. ولكن القصة لا تتوقف عند نصوص الدستور والمؤسسات الديمقراطية، فقد وقعت المانيا المهزومة أسيرة شروط معاهدة فرساي المذلة سنة 1919، تلك المعاهدة التي قيدتها عسكريا بتجريدها من جيشها (تم تحديد عدد افراد الجيش بما لا يتجاوز 100 ألف فرد)، والغاء نظام التجنيد الالزامي فيها، فضلا على اقتطاع أجزاء من ارضها لمصلحة بلجيكا والدنمارك وفرنسا وبولندا، وسلب مستعمراتها واجبارها على دفع تعويضات مالية هائلة للمتضررين تعادل ضعفين ما تستطيع دفعه.

دفعت الحرب وتبعاتها السلبية الاقتصاد الألماني الى الانهيار الحقيقي؛ نتيجة ارتفاع الأسعار، وتدني قيمة العملة الوطنية، والتضخم الاقتصادي الهائل، فنتج عن ذلك تآكل مستمر للمدخرات النقدية للطبقة الوسطى، وتدهور أوضاع الموظفين... ثم جاء الكساد الكبير سنة 1929 ليزيد الأوضاع السيئة سوءا، مما عجل من وقوع المانيا في فخ الاقتراض غير المستدام، الذي ترافق مع ضعف كبير في حجم الاستثمار، الى جانب تكبد القطاعين الحكومي والخاص خسائر مالية فادحة للغاية، لذا زادت البطالة في المجتمع حتى وصلت سنة 1933 الى ستة ملايين عاطل عن العمل من مجموع السكان البالغ 67 مليون نسمة، ناهيك عن ارتفاع معدلات الفقر والجوع بين الناس.

كل هذه الأوضاع قادت المجتمع الالماني الى دمار بنيته الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي، فتفاعل جرح الاذلال الوطني لمعاهدة فرساي مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحرجة، ليصبح المجتمع بيئة خصبة للتطرف والمتطرفين، وهي البيئة التي فهمها هتلر وحزبه النازي جيدا فجرى استثمارها بذكاء للهيمنة على الامة الألمانية.

لقد احتاجت المانيا –آنذاك- الى قيادات متطرفة مجنونة بشكل استثنائي لقيادتها، بقدر ما احتاجت هذه القيادات مجتمعا محبطا ومكسورا بشكل كبير تنفخ فيه عنفوان الغرور والكبرياء القومي، لجعله أداة طيعة لمغامراتها واطماعها وحروبها الدامية، لكن هذا المسار اثبت فيما بعد انه مسارا خطرا للغاية على الشعب الألماني، كما على بقية شعوب العالم، ويكفي للدلالة على ذلك انه كلف البشرية اكثر من 60 مليون قتيل، واكثر من 100 مليون مصاب، ناهيك عن الخراب المادي الذي الحقه بالعالم، وتغييره لخارطة شعوبه ونظامه العالمي.

عراق ما بعد سنة 2003

بعد الوصف الموجز للتجربة الألمانية ما قبل النازية، دعونا نسلط الضوء بإيجاز –أيضا- على التجربة العراقية بعد سنة 2003 لنعرف مقدار التقارب بين التجربتين. لقد عانى شعب العراق منذ سنة 1990 من الهزيمة العسكرية لمرتين متتابعتين: اذ فُرضت عليه شروط مذلة في المرة الأولى (شروط خيمة صفوان) اقتطعت أجزاء مهمة من جنوبه لمصلحة الكويت، إضافة الى دمار هائل في بنيته التحتية، وتعويضات مالية هائلة ومجحفة للغاية لمصلحة المتضررين من حرب تحرير الكويت ترافقت مع حصار اقتصادي لا مثيل له، وانتهاك مستمر لسيادته استمر حتى الوقت الحاضر... وفي المرة الثانية سقطت الدولة بيد الاحتلال الأمريكي، فجرى حل جيش العراق وتدمير مؤسساته الرسمية، واستباحة ارضه من جميع جيرانه بحجة تحريره من الاحتلال مرة، وحجة الصراع الطائفي والعرقي مرة أخرى.

وكما في التجربة الألمانية، اعتمدت التجربة العراقية –أيضا- في صياغة نصوص دستورها لسنة 2005، وتشكيل مؤسساتها الدستورية على ديمقراطية هشة غير مستقرة محورها حكومة برلمانية فدرالية ضعيفة للغاية، جرى الترويج لها من المحتل الأجنبي والطبقة السياسية العراقية النافذة على انها طوق النجاة لاستعادة الحرية والرفاه والسيادة، لشعب عانى الكثير من طيش حكامه السابقين، وتدخل الاجانب في شؤونه الداخلية.

ان الصراع الإقليمي والدولي، والتخندق الطائفي والعرقي عملا على نفخ شيء من الحياة في جسد هذه التجربة الفاشلة في الحكم مما ساعد على استمرارها طيلة السبعة عشر سنة الماضية، ولكن هذا الحال لا يمكن ان يستمر الى الابد، فجميع المؤشرات تنبئ بأحداث صعبة للغاية وعواقب وخيمة تنتظر العراق وشعبه وهما يتحركان في طريق مستقبلي مليء بالمخاطر.

وأول المؤشرات الدالة على وعورة هذا المسار المستقبلي ترتبط بنوعية الشعب الذي يستهدفه السياسيون واحزابهم المتنوعة بخطابهم، فهم لا زالوا يعتمدون خطاب ما بعد سنة 2003 معتقدين ان شعبهم في سنة 2020 هو نفسه الذي كان في سنة 2003، وهذا ان دل على شيء انما يدل على مقدار الغباوة التي يحملها هذا الخطاب واصحابه، ففي سنة 2003 كان هناك شعبا عراقيا ترعرع في ظل خطاب البعث وقيادة صدام حسين الظالمة، لذا القى مسؤولية معاناته على تلك القيادة وخطابها الفوقي المهلهل؛ لأنه عاش حماقتها وذاق طعم الظلم والاذلال والجوع والفقر على يديها.

اما في سنة 2020 فالمعادلة مختلفة للغاية، فبحسب الإحصاءات العراقية الرسمية بلغ عدد سكان العراق سنة 2018 ما يقارب (38 مليون نسمة) منهم (28430000 ثمانية وعشرون مليون واربعمائة وثلاث واربعون ألف نسمة) تتراوح أعمارهم بين صفر سنة و34 سنة، مما يعني أن أكبرهم كان عمره 17 سنة عند سقوط النظام، أي أنه كان مراهقا لم يتجاوز مرحلة الدراسة الثانوية، ولم يعاني بشدة من الظلم والاذلال المباشر من قبل مؤسسات النظام البعثي وقراراته المتخبطة.

ان هذه الـ 28 مليون عراقي تشكل تقريبا ثلاثة ارباع الشعب العراقي اليوم، وقد زادت نسبتها في السنتين الأخيرتين (2019 و2020) بإضافة ما يقرب مليونين الى مليونين ونصف نسمة جديدة اليها بحكم الزيادة السكانية. هذه الأجيال من الشعب العراقي هي أجيال شابة عاشت وعانت وقع التجربة العراقية بعد سنة 2003 وهي تعتبر ان نظام حكمها وطبقتها السياسية وجميع قادتها (السياسيون والاجتماعيون) مسؤولين مسؤولية مباشرة عن معاناتها، وضياع فرص الحياة والعيش بكرامة امامها، فهي مجروحة وطنيا عندما ترى بلدها ساحة لصراع الاخرين، تعبث فيه ايادي الطامعين من الخارج، والعابثين من الحمقى والفاسدين في الداخل.

وما زاد من عمق جرحها الوطني طبيعة ما تعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية، عملت جائحة كوفيد 19 فيها عمل الكساد الكبير في المانيا فزادت معاناة الناس وتركت انعكاساتها السلبية الموجعة عليهم، فبحسب الإحصاءات الرسمية بلغت نسبة الفقر بين السكان في العراق 20% سنة 2018 وازدادت في سنة 2020 الى 31.7% أي ما يعادل 11 مليون و 400 الف عراقي يعانون اليوم من الفقر. اما البطالة فكانت 13.8 سنة 2018 ارتفعت الى 27% سنة 2020، اذ يتراوح عدد العاطلين عن العمل ما بين ثلاثة الى أربعة ملايين مواطن من عدد السكان الذي لا يتجاوز 40 مليون مواطن، ويكفي لتوضيح حجم كارثة البطالة الإشارة الى ان سبعة الاف عراقي من حملة شهادتي الماجستير والدكتوراه سجلوا أنفسهم ضمن قوائم المعوزين لدى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية سنة 2019 فقط.

فضلا على الفقر والبطالة فان الاقتصاد العراقي الانتاجي بقطاعيه العام والخاص عانى ولا زال من خسائر مالية كبيرة بسبب سطوة القطاع الاستهلاكي المستورد، فتوقفت نتيجة ذلك الاف المعامل والمصانع في القطاعين، ناهيك عن ضعف الاستثمار المستدام الناجم عن عدم وجود البيئة الآمنة والقوانين الجيدة، وأيضا نتيجة خضوعه للابتزاز بسبب الفساد متعدد الابعاد.

ان كوفيد 19 سيزيد من مشكلة الاقتصاد العراقي الريعي، وتبدو مؤشرات ذلك واضحة للعيان من خلال ارتفاع الأسعار، ونقص التمويل الحكومي لدعم رواتب موظفي الدولة والقطاع الخاص، وقد بدأت الكثير من الاسر محدودة الدخل باستهلاك مدخراتها المالية، وقد يدفع تفاقم حجم المشكلة الى جعل العملة العراقية عاجزة عن الصمود قريبا، اذ قد تخسر قيمتها بين لحظة وأخرى، امام توجه حكومي محدود الخيارات لمعالجة الوضع من خلال قروض داخلية وخارجية غير مستدامة قد تحل الازمة اليوم، ولكنها سترهق الاقتصاد العراقي المنهك مستقبلا بلا شك.

إضافة الى ما تقدم، يمكن القول ان نظامنا التربوي والتعليمي بحد ذاته يعد نظاما مشاركا في افقار الدولة بشكل مستمر من جانب، ويعمل على خلق المزيد من الأعداء الناقمين عليها من جانب آخر، فبحسب بيانات الحكومة العراقية بلغ عدد طلاب المدارس المقيدين لدى وزارة التربية لسنة 2020 اكثر من عشرة ملايين طالب، اما عدد الطلبة المقبولين في الجامعات العراقية لسنة 2019 فبلغ (241268) بزيادة مقدارها 3.1% عن السنة السابقة (2018)، لذا ليس غريبا ان تتوقع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية ان يكون عدد الطلبة المقبولين في جامعاتها لسنة 2020 ما يقارب 300 الى 350 الف طالب وطالبة.

هذه الاعداد الكبيرة من الطلاب في الوقت الذي ترهق موازنة الدولة المعتمدة على مجانية التعليم، فإنها تفتقر الى سياسة تعليمية واضحة المعالم لاستثمار مخرجات التربية والتعليم بما يواكب ويخدم حاجات سوق العمل، لذا تجد ان معظم هذه المخرجات ناتجة عن تخصصات علمية متخمة لا تجد من يوظفها، فأصبح نظامنا التربوي والتعليمي موردا مهما من موارد تغذية سوق البطالة، وهذه المئات من الألوف التي يجري منحها الشهادات سنويا انما تضيف اعداد جديدة من الناقمين على الدولة وطبقتها السياسية وأصحاب العقد والحل فيها، وميزة هؤلاء انهم شباب واعي يدرك انه تم خداعه وتضليله والتلاعب بحياته ومستقبله من قبل حكومات وقيادات وأنظمة غير مؤهلة وغير صحيحة.

وسنعلم حجم الكارثة في المؤشرات أعلاه إذا ما علمنا أن الهبة الديموغرافية العالية للمجتمع العراقي سترفع -حسب التوقعات الرسمية- عدد سكان بلدنا سنة 2030 ليصبح 53 مليون نسمة، مما يعني أن جميع المؤشرات المذكورة وغيرها ستزداد حدة وخطورة في المستقبل المنظور ما لم تتوفر الإرادة والرؤية المناسبة لمنع وصولها الى درجة الانفجار والخروج عن السيطرة.

في ظل ما تقدم من مؤشرات خطيرة للغاية، والتي للأسف لا توجد حتى اللحظة معالجات فاعلة مدركة لحجمها وخطورتها وتداعياتها يبدو ان العراق يتدحرج بسرعة نحو مصير المانيا ما بين الحربين، فديمقراطيتنا الفاشلة الفاقدة لثقة الشعب بها، والمقترنة بكل مؤشرات البؤس أعلاه تشير الى ان بلدنا ذاهب بسرعة الى السقوط في شراك التطرف والعنف الفكري والاجتماعي والسياسي، وان تجربتنا الحالية في الحكم بعوامل ضعفها الحاضرة لن تصمد طويلا في المستقبل القريب أو المتوسط امام ضربات المتطرفين الذين سينهالون عليها من جميع الجبهات.

ومن الدلائل الداعمة لهذا الرأي هو رؤيتنا للوضع السياسي والثقافي العام للمجتمع العراقي، فالانقسام الحاد أصبح سيد الموقف في احاديثنا وحواراتنا السياسية وغير السياسية، وبات مجتمعنا يتخندق بسرعة تحت مقولة: من ليس معي ضدي والتي حكمت رؤيتنا الى الأمور بلونين فقط، أما أسود وأما أبيض، فالكثير صار يغادر المنطقة الرمادية ولا يقبل بها، بل قد تكون غائبة عن وعيه، كما لا يحترم ولا يقبل الشخص والرأي المحايد، لذا تسمع طبول الحرب تدق بين العراقيين في اعلامهم وحواراتهم وتحالفاتهم السياسية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووصل الامر الى حد ان حياة الانسان نفسه لم تعد مهمة الا بقدر انتماء صاحبها الى هذا الخندق او ذاك، وتتعالى أصوات الاتهام بالعمالة والخيانة والتسقيط بين الأطراف الفاعلة في المجتمع، وبين الافراد أنفسهم.

وهذا كله يكشف عن حقيقة ربما يحاول الكثير اخفائها او تجاهلها الا وهي ان الصدام الاجتماعي والسياسي قادم لا محالة، لكنه فقط ينتظر ظهور القادة المتطرفين المناسبين لقيادة الجموع الغاضبة للانتقام من بعضها البعض. وما ظاهرة الاحتجاجات المستمرة المتصاعدة في حدتها في كل مرة أكثر من المرة السابقة لها الا مقدمات ناصعة لهذا الصدام القادم، وهو صدام حتمي ينتظر بروز قادة متطرفين وعنيفين بشكل استثنائي لنفخ الغرور والكبرياء في جموع حاقدة لا تقبل الحلول الوسط.

أخيرا، يمكن القول: ان النذر المشؤومة تطرق أبواب الجميع، ولا ينكرها الا الحمقى وقصيري النظر ممن يمنون أنفسهم بمصير غير المصير المتوقع لهم، ولكن ما لم تعالج أسباب النقمة والغضب الجماهيري، ويعاد النظر بالقيادات والمؤسسات والسياسات والأنظمة الخاطئة، فلن تتوقف عجلة الاحداث عن الدوران حتى حصول الانفجار المدمر القادم.

* الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2020
www.fcdrs.com

اضف تعليق