دورُ الفَرد مَحصور في إضاءة الشَّمعة، وليس إجبار الناس على المَشْي في الطريق. وكما أن تَحويل مَجرَى النهر لا يَكون بالسِّباحة ضِد التَّيار، وإنَّما يَكون ببناء السُّدود، كذلك عملية نقل المجتمع الإنساني من التخلف إلى التقدم، لا تكون بتحدِّي المجتمع ومُحاربته والوقوف ضِدَّه، وإنما تكون...
(1)
اكتشاف الأنظمة الاجتماعية المسيطرة على حياة الفرد، يستلزم معرفة مسار الفرد في المجتمع، وطبيعةِ التناقضات في منظومة الحقوق والواجبات التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع. والتناقضات تكشف ماهيةَ المسار الفردي، وحقيقةَ الجوهر المجتمعي، واتِّجاهَ المشاعر الإنسانية، وهُوِيَّةَ الأنظمة الاجتماعية ذات البِنية السُّلطوية الحاكمة معنويًّا وماديًّا.
والفلسفةُ الاجتماعية قائمة على دراسة الاختلافات والتناقضات والصراعات، وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء، وتُعرَف أهميتها. فمثلًا، في الصَّيف تُعرَف أهمية الشِّتاء، وفي الشِّتاء تُعرَف أهمية الصَّيف. وهذا المثال ينسحب على كُل الثنائيات، سواءٌ كانت في داخل الإنسان أَمْ خارجه. وبما أنَّه لا يُوجد مجتمع إنساني مثالي، ولا يُوجد فرد كامل، فإن تيارات فلسفية جديدة ستنشأ وتتكاثر لدراسة حالات النقص والتعارض والاختلاف والتَّضَاد، وسوف تَبْرُز أفكار معرفية تقوم على تكوين الأُصُول الاجتماعية، وربطها بالفُروع والتطبيقات على أرض الواقع.
وبما أن المريض وَحْدَه هو الذي يحتاج إلى دواء، فإنَّ اختبارات كثيرة ستظهر من أجل الوصول إلى الدواء الفَعَّال. وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع، فكِلاهما كائن حَي، يَمْرَضَان، ويَبحثان عن الدَّواء مِن أجل الشِّفاء. والاعترافُ بالمَرَض هو الخُطوة الأُولَى للعلاج.
(2)
كُلُّ فرد له حركتان في حياته: حركة في داخل ذاته، وهي انتقال عَبر الأفكار والمشاعر والصراعات النَّفْسِيَّة، وحركة في داخل مُجتمعه، وهي انتقال عَبر الضغوطات الحياتية والقيم الاستهلاكية والحاجات البيولوجية. وإذا سَيْطَرَ الفردُ على نَفْسه، سَيْطَرَ على عناصر البيئة المُحيطة به. وإذا نَجَحَ في صناعة الحُلْم في داخله، نَجَحَ في صناعة مُستقبله في الحياة. والطموحاتُ الفردية لا يُمكن أن تتحقَّق واقعًا ملموسًا إلا بإزالة كافة الحواجز بين الفرد والمجتمع، وفَتْحِ الحُلْم الفردي على مِصْرَاعَيْه أمام أمواج المجتمع، كي تحدُث عملية الاندماج والتمازج بين الأنا والآخَر في المجتمع الواحد، فالفردُ جُزء مِن المجتمع (الكُل)، والجُزءُ لَيس له وُجود بدون الكُل. وشرعيةُ الغُصن مُرتبطة بوُجوده في الشجرة، أمَّا إذا رُمِيَ الغُصن على الرَّصيف، فَسَوْفَ تَسحقه أقدام المَارَّة، ولَن يُدافع عَنه أحد.
(3)
لا مَفَر مِن تعامل الفرد مع الصراعات النَّفْسِيَّة والتناقضات الاجتماعية، كما أنَّه لا مَفَر مِن تعامل الرُّبَّان مع البحر المُتلاطم الأمواج. والسَّفينةُ هي التي يجب أن تتأقلم معَ البَحْر، وليس العكس، لأنَّنا نَملِك سُلطة على السَّفينة، ولا نَملِك سُلطة على البحر. وهذه الفكرةُ ينبغي أن يَستوعبها الفردُ في حياته الاجتماعية، كَي يُميِّز بين الظروف التي تَحْكُمنا (الظروف الحاكمة)، والظروف التي نَحْكُمها (الظروف المحكومة)، وكَي يُفرِّق بين الأشياء التي نَكون فيها مُسيَّرين، والأشياء التي نَكون فيها مُخيَّرين.
وهذا الأمرُ ضروري لأنَّه يُريح الفردَ ذهنيًّا وجسديًّا، ويُحرِّره مِن الضغوطات الفكرية والاجتماعية، ويَدفعه إلى الاستثمار في المُمْكِن، وعدم إضاعة وَقْته في المُستحيل. ولا يُمكن للفرد أن يُنَاطِح المُجتمعَ، ولا يَقدِر أن يُصلِح العَالَمَ، لأنَّ العَقْلَ الجَمْعي أقوى مِن العَقْل الفَرْدي. وهذه لَيست دَعوة إلى الكسل واليأس، ولكنها دَعوة إلى ضرورة معرفة الفرد لإمكانياته، وعدم تَضييع جُهده في معارك خيالية خاسرة.
ومعَ هذا، يَنبغي على الفرد أن يَترك بصمته الشخصية في سبيل علاج مُشكلات المُجتمع والعَالَم، دُون أن يُحمِّل نَفْسَه مسؤوليةَ إصلاحهما. والفردُ لَيس وَصِيًّا على الناس، ولا مسؤولًا عن أعمالهم ونتائجها، ولَكِنَّه مُطَالَب بمُساعدة الناس، وتَسليط الضَّوء على أخطائهم، وتقديم حُلول ناجعة لإصلاحها، ونشر الوَعْي في المجتمع.
ودورُ الفَرد مَحصور في إضاءة الشَّمعة، وليس إجبار الناس على المَشْي في الطريق. وكما أن تَحويل مَجرَى النهر لا يَكون بالسِّباحة ضِد التَّيار، وإنَّما يَكون ببناء السُّدود، كذلك عملية نقل المجتمع الإنساني من التخلف إلى التقدم، لا تكون بتحدِّي المجتمع ومُحاربته والوقوف ضِدَّه، وإنما تكون ببناء الوَعْي ونشر ثقافة الإبداع. وكما أن الشاعر يستطيع العثور على مواطن الجَمَال في الأشياء القبيحة، وكتابة قصيدة جميلة عن شيء قبيح، كذلك الفرد يستطيع العثور على المعاني الإنسانية داخل المجتمع القاسي، وإيجاد أنظمة فكرية منطقية داخل الفوضى المجتمعية.
(4)
النظام الاجتماعي الحقيقي هو ترتيب لعناصر الفوضى وسيطرة عليها، ولَيس حَذفًا لها، لأنَّها _ ببساطة _ لا يُمكن حذفها ولا إلغاؤها. ومِن المُستحيل تكوين مُجتمع إنساني مُنظَّم بشكل كامل، والنظامُ الاجتماعي الكامل غاية لا تُدرَك. ومعَ هذا، إنَّ المُجتمع الذي يَعرف أخطاءه وعُيوبه وأمراضه، هو مُجتمع حَي وحيوي، يسير في طريق العلاج. أمَّا المُجتمع الذي يُكَابِر، ويُعَانِد الحقائقَ، ويَعتبر نَفْسَه خاليًا مِن المُشكلات والأزمات، فهو مُجتمع ميت، لا أمل في عَودته إلى الحياة. والمجتمعُ الميتُ الذي لا يَعرِف أنَّه ماتَ، لا يُمكن إقناعه بأهمية الحياة، وضرورةِ العودة إلَيها.
اضف تعليق