الشعوب لما كانت تبحث عن الأمن والاستقرار والرفاهية، ولا تتحقق هذه الأهداف إلا بوجود حكومة لديها قدرة تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية؛ فكيف تستطيع الدول أن تبني حكومات مستقرة إلى حد ما لتتمكن هذه الحكومات من تحقيق أهداف شعوبها، معنى أن يكون لدى دولة ما حكومة مستقرة...

تبحث الشعوب في الدول المضطربة عن الأمن والاستقرار بشكل دائم، وقد تقدمهما -في كثير من الأحيان- على طعامها وشرابها واقتصادها المنهك. فالشعوب الآمنة والمستقرة هي أمّيَل إلى الحياة من الشعوب غير الآمنة وغير المستقرة. وكلما وجد الأمان والاستقرار وجدت الحياة؛ ووجد الأمل؛ وحصل التقدم والتطور. وكلما فٌقد الأمان والاستقرار فُقدت الحياة؛ وفُقد الأمل؛ وتوقف التقدم. ولا يحصل الأمن والاستقرار المجتمعين إلا بشيء واحد؛ وهو وجود حكومة مستقرة.

على هذا الأساس يدور في ذهني وذهن عدد من الباحثين في مجال الإدارة العامة، سؤال في غاية الأهمية، وهو أن الشعوب لما كانت تبحث عن الأمن والاستقرار والرفاهية، ولا تتحقق هذه الأهداف إلا بوجود حكومة لديها قدرة تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية؛ فكيف تستطيع الدول أن تبني حكومات مستقرة إلى حد ما لتتمكن هذه الحكومات من تحقيق أهداف شعوبها في الأمن والاستقرار والرفاهية؟

إن أول ما يتبادر للذهن هو ما معنى أن يكون لدى دولة ما حكومة مستقرة لكي تتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار؟ فهل الحكومة المستقرة هي حكومة مستمرة ودائمة، بمعنى أن الأمن والاستقرار والرفاهية مرتبط بوجود حكومة دائمة، فإذا لم تكن حكومة دائمة فقد الأمن والاستقرار؛ وانعدمت الرفاهية؟

مبدئيا إذا كان الأمر كذلك؛ فهذه الفرضية ليست دقيقة تماما، فكثير من الحكومات تحكم البلاد أربع سنوات أو خمس، ثم تذهب؛ وتأتي حكومة أخرى من دون أن يؤثر على أمن المجتمع واستقراره ورفاهيته. فمثلا إن دول غرب أوروبا هي دول نيابية ديمقراطية قائمة على الانتخابات الحرة، حيث تتداول الأحزاب على السلطة كل أربع سنوات، وهي مع ذلك دول آمنة ومستقرة ومُرٌفة.

وقد تكون هناك حكومات دائمة، مثل الحكومات الأميرية أو الملكية أو الديكتاتورية، فعلى الرغم من استمرار الحكومة وديمومتها إلا أن البلاد التي تحكمها ليست آمنة؛ ولا مستقرة، ولا مُرٌفة دائما. فمن قال: إن الأمن والاستقرار والرفاهية التي تبحث عنها الشعوب مرتبط بديمومة الحكومة واستمرارها، بل العكس قد يكون هو الصحيح أيضا. فربما تكون هذه المقومات المجتمعية مرتبطة بوجود حكومات تتداول على السلطة، فكل حزب أو تحالف سياسي يأتي إلى السلطة سيكون من أول أهدافه هو تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية، فان عجز عن ذلك استبدله الشعب بغيره من الأحزاب والتكتلات السياسية. على عكس تلك الدول التي يحكمها الأمراء والملوك والمستبدون، فالشعب دائما ما يكون عاجزا عن المطالبة بالتغيير لتحقيق هذه الأهداف، فان وجدت كان بها، وإن لم توجد سكت وخنع.

نعم؛ هذا صحيح جدا، إذا كنا نقصد بالحكومة المستقرة هي الحكومة الدائمة، ولكن نحن لا نقصد بالحكومة المستقرة أنها حكومة دائمة، بل نعني بالحكومة المستقرة هي الحكومة التي تمتلك مجموعة من المقومات التي تضمن تحقيق الأهداف المجتمعية في الأمن والاستقرار والرفاهية، و لعل أهمها هي :

1. لديها رؤية واضحة لما ينبغي أن تقوم به: سواء كانت الحكومات منتخبة أم غير منتخبة، فان أول مشكلة تواجهها دائما وتجد صعوبة بالغة في تجاوزها هي إما أنها لا تمتلك رؤية واضحة جدا لما ينبغي أن تقوم به طوال فترة حكمها، قصيرة كانت أم طويلة، وإما أنها لا تستطيع أن تطبق هذه الرؤية لأنها لا تتلاءم مع واقع مجتمعها وتطلعاتها، فتصطدم بجبل من المشكلات والتحديات تأخذها طولا وعرضا، كأنها سفينة تتقاذفها الأمواج من كل حدب وصوب.

والأكثر إيلاما أن بعض الحكومات تتبنى أكثر من رؤية إستراتيجية، طويلة وعريضة، تبقى حبرا على ورق حتى نهاية حكمها. في بعض البلدان مثل العراق تستنسخ الحكومة برنامجها السياسي ومنهاجها الوزاري عن الحكومة السابقة، مع تقديم وتأخير في بعض بنودها، ويعمل رئيس الوزراء وكابينته الوزارية بعيدا جدا عن ذلك البرنامج، ومن المؤسف حقا القول إن رئيس الوزراء نفسه لا يرجع إليه ولا وزراءه يقلبون أيا من صفحاته.

وعليه؛ فالحكومة المستقرة هي الحكومة التي تمتلك رؤية واضحة مفصلة، ولها برنامج محددة تعمل حصرا عليها، وتسعى إلى تحقيقه، ولا تسمح للمشكلات والتحديات الدخيلة أن تأخذها بعيدا عن تلك السياسات والبرامج. فتشعر الناس أنها مثل سفينة شامخة تتخطى الأمواج تجاه أهداف محددة، لا تحيد عنها أبدا. إما أن تحققها أو تعلن عجزها وتنحيها.

2. لديها مرجعية دستورية وقانونية: لا ينبغي أن تعمل الحكومات بعيدا عن ما اتفق عليه في الدستور أو القوانين النافذة، لأنها سند قوي وحجة متينة تحتج بها أمام معارضيها، لأن مهمتها في الواقع ترجمة الدستور إلى قوانين، وترجمة القوانين إلى تعليمات، وترجمة التعليمات إلى توجيهات ومتابعة تنفذ تلك التوجيهات بما يصب في خدمة الرؤية الواضحة والهدف الواضح. فإذا كانت الحكومة تعمل في واد، والدستور والقوانين في واد أخر حصل الخلاف وسادت الفوضى.

نعم، ربما ترى الحكومة من خلال برنامجها السياسي أن الدستور بحاجة إلى تغيير، فالنظام البرلماني لا يخدم فلسفتها في الحكم، فهي تريد أن تغير الدستور لتحقيق نظام رئاسي أو بالعكس. وقد ترى أن الدستور فيه تفرقة للشعب، وفيه حديث عن القوميات والطوائف أكثر من حقوق المواطنين وواجباتهم، وقد ترى أن قانونا ما يقف معرقلا، وهكذا فهي تعمل بالطرق القانونية والإدارية على تغيير أو تعديل الدستور أو القوانين أو القرارات، ولكن في كل الأحوال لا ينبغي إن تقفز على الدستور أو القوانين بحجة أنها لا تتفق معها، فان فعلت ذلك؛ فقدت الشرعية الدستورية والقانونية، وصارت أهدافا سهلة لمعارضيها ومنتقديها.

3. لديها قيادات سياسية وإدارية فاعلة: لا تصلح أي حكومة لإدارة بلد ما لم تكن قد عملت منذ قبل وصولها للحكم على إعداد قيادات سياسية وإدارية فاعلة، ألم ترى أن الدول التي أتت برئيس وزراء لم يختار وزراءه، بل تحدد الأحزاب وتختار وزراءه لا تكون حكومة مستقرة أبدا، فوزارة الخارجية لديها سياسة تعبر عن رؤية الوزير أو حزبه، ووزارة التجارة لديها سياسة تعبر عن رؤية الوزير وحزبه، ووزارة العمل تعبر عن رؤية الوزير وحزبه. فمثل هذه الحكومات حكومات تقف على أرض هشة، فهي من داخلها غير مستقرة، بل ومتناقضة، فكيف يمكن أن تحقق الاستقرار السياسي والمجتمعي والاقتصادي المطلوب منها؟

4. لديها أجهزة مدنية وأمنية مقتدرة: إن الحكومة في العادة تتولى رسم السياسات، وإصدار القرارات ومتابعتها لتحقيق برنامجها الوزاري، ولكن الأجهزة الحكومية ممثلة في المؤسسات العامة مدنية أم أمنية أم عسكرية هي التي يقع عليها عبء التنفيذ، فإذا لم تكن هذه الأجهزة منسجمة مع رؤية الحكومة أو كانت تعمل بالضد منها، أو كانت تحت أمرة قيادات ضعيفة فان كل خطط وسياسات الحكومة تذهب أدراج الرياح. فما بالك لو كان لكل جهاز حكومي مدني أو أمني أو عسكري ولاء لجهة دون الحكومة. فان عدم الاستقرار هو سيد الموقف. فمن يريد أن يدير حكومة مستقرة تجاه تحقيق أهدافه عليه أن يختار قيادات مدنية وأمنية وعسكرية تنسجم مع رؤية الحكومة، بل تتفاعل معها وتطبق وتحاسب عليها.

5. لديها أنصار ومؤيدون ومحبون: بالنهاية كل ما تقوم به الحكومة لابد أن يصب لمصلحة المواطنين أو عموم المواطنين، وعليه لابد أن تكون سياسات وبرامج الحكومة نابعة أصلا من حاجات المجتمعات المحلية، فان فعلت الحكومة ذلك وطبقت ما وعدت به، وما كتبته في برنامجها فإنها تكتسب شعبية وأنصار ومؤيدين كثر يدافعون عنها في كل حديث أو مقال أو مؤتمر.. فتظل مثل هذه الحكومة تتمتع بالاستقرار عكس الحكومة التي لا ترعى أبناء شعبها أو تعد ولا تنفيذ حاجات الناس، فالكل أعداءها في السر والعلن، حتى هؤلاء الذين يمثلون قيادات فيها، فإنهم يتنصلون من مسؤولياتهم وكأنها ليست من صنعهم أو جراء أفعالهم.

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق