فعلها الرفيق بوتين، كما فعلها في ميدان حروب العسكر والدبلوماسية وحروب الدعاية في السنوات الأخيرة، عندما حقق المركز الأول في إعلانه عن لقاح روسي لتخليص البشرية من فيروس كورونا المستجدّ؛ بغض النظر عن جدواه الطبية ونجاحه الفائق، فقد أربك خصومه وأصدقاءه في إعلان الحدث المفاجئ...
فعلها الرفيق بوتين، كما فعلها في ميدان حروب العسكر والدبلوماسية وحروب الدعاية في السنوات الأخيرة، عندما حقق المركز الأول في إعلانه عن لقاح روسي لتخليص البشرية من فيروس كورونا المستجدّ؛ بغض النظر عن جدواه الطبية ونجاحه الفائق، فقد أربك خصومه وأصدقاءه في إعلان الحدث المفاجئ بهذه السرعة الفائقة بعد صمت طويل، وسرّيّة خارج التوقعات.. خاصة أن اللقاح ما عاد لقاحاً طبياً فقط، بل لقاحا سياسيا من طراز فريد، يتشابك فيه جشع المال والاستثمار، مع جشع السياسة المتسلطة، وحروب الدعاية السوداء والتشويه.
ومثلما فتح فيروس كورونا المستجدّ اللعين باب الرعب والخوف في حياة البشرية، فإنه فتح تحت مظلته باب جهنم في رفع منسوب الصراع الدولي، وفجَّر حروباً باردة جديدة، واستحدث حروباً من نوع آخر، وعلاقاتٍ تحكمها الأنانية الدولية والشخصية، فقد أبرز هذا الفيروس مرض النرجسية الفردية في إدارة السياسة في مواجهة الخصوم.
سابقاً كنا نعرف أن روسيا والصين تتبادلان الموقف الواحد ضد أمريكا في القضايا السياسية، بينما نرى اليوم كل دولة تغني على ليلاها لكسب الغنيمة. فالمفارقة في هذا اللقاح تكمن في أن ترامب وبوتين وبينغ يخوضون (حرباً بالوكالة) خدمة لمصالحهم الشخصية وأنظمتهم الوطنية المتنافسة، بعيداً عن فكرة المسؤولية الاجتماعية، وقريباً من تحقيق نصر مادي وسياسي!
فالولايات المتحدة قد أطلقت بجهد توفير 300 مليون جرعة من لقاح آمن وفعال لكوفيد19 بحلول يناير 2021 بالمقابل أنفقت الصين المليارات في هذه المنافسة المحمومة، لتأتي روسيا فجأة وتنتزع هذا النصر على الصديق والعدو معا، باكتشافها لقاح (سبوتنيكV) المثير للجدل في أوساط الإعلام والسياسة والطب!
وكعادة الدول الكبرى وحروبها النفسية والدعائية، بدأت حملة لقتل اللقاح الروسي في مهده، وتشويه سمعته، وإيجاد تفسيرات طبية تقلل من فاعليته، وتصعيدا للتحذيرات الطبية العالمية من استخدامه، كونه لم تُستكمل تجاربه السريرية، كما اعتُبر طرح لقاح (سبوتنيك V) بهذه السرعة، بمثابة تسجيل نقاط دعائية لموسكو، وإشارة إلى إطلاق الاتحاد السوفيتي للقمر الصناعي الأول، متغلباً على الولايات المتحدة الأميركية، خاصة وأن الإعلام الأمريكي قام بحملة إعلامية منظــمة لتشويه هذا اللقاح الأول الذي قد يعطي بعض الأمل للبشر الغريق برعــــب الفيروس!
أصوات أخرى حاولت أيضاً قتل (الانتصار الروسي)، كما عنونته الصحف الأجنبية، وبررت انتقادها بوجود ثغرات في اكتشاف اللقاح، باعتبار أن الهيئة العلمية الروسية التي طورت اللقاح لم تقم بعد بتجارب المرحلة الثالثة، لأن المبدأ هو أن تمر اللقاحات بثلاث مراحل من الاختبارات البشرية قبل الموافقة على استخدامها على نطاق واسع. تختبر المرحلتان الأولَيَان اللقاح على مجموعات صغيرة نسبيّاً من الأشخاص لمعرفة ما إذا كان محفزاً لجهاز المناعة، ثم تقارن المرحلة الأخيرة، المعروفة باسم المرحلة 3 اللقاح بالعلاج الوهمي لعشرات الآلاف من الأشخاص. وهنا طرحت الأوساط الطبية السؤال التالي: كيف يمكن لروسيا أن تعلن توصلها للقاح فعال في حين أن المرحلة النهائية هي الطريقة الوحيدة لتأكيد ما إذا كان اللقاح يمكن أن يمنع العدوى، ومدى فعاليته؟!!
وللحقيقة أيضاً، بدأت أوساط من داخل روسيا تحذر من مخاطر اللقاح، وعدم جاهزيته وفعاليته، فقد أكد أحد كبار أطباء روسيا، وهو البروفيسور ألكسندر تشوتشالين كبير أطباء الجهاز التنفسي، الذي استقال من (مجلس الأخلاقيات) بوازرة الصحة الروسية احتجاجا على سرعة الإعلان، بأن اللقاح هو (انتهاك جسيم لأخلاقيات المهنة) نتيجة الاستعجال في إنتاج اللقاح وضعف التجارب، وعدم كفايتها، مما سيؤدي إلى كوارث في حياة البشر! بل إن هناك من يتندر بحملة تسويق الاكتشاف الروسي، وهناك عشرات الآلاف من الروس تحت عذاب الفيروس بدون أمل بالنجاة!
بالكلام الفصيح: أصبح فيروس كورونا كأنه منجم من ذهب لدول العالم، رغم تدميره للاقتصاد العالمي، وإصابة أكثر من 20 مليون شخص، وقتله للآلاف، وتجويعه للملايين، وخروج الملايين خارج تغطية العمل، إلا أن المحاولات العالمية مازالت جادة للظفر بهذا المنجم الذي سيدرّ على الشركات مليارات الدولارات، فهناك 140 مشروعاً مقبولاً من منظمة الصحة العالمية، و28 بحثاً علمياً رصيناً وصلت إلى مراحلها الأخيرة من أصل 3 مراحل تجريبية، وهناك 6 مرشحين من أكسفورد إلى بكين للقاحات وصلت إلى الخط النهائي، وهناك 3 مشاريع صينية، و12 لقاحاً مضاداً للفيروس في مراحل مختلفة من التجارب السريرية حول العالم، وتحالفات ألمانية وأمريكية وبريطانية. وهو ما يعطي الأمل لسكان الأرض أن يتنفسوا الصعداء لمزاولة حياتهم بشكل طبيعي!
بالمقابل؛ هناك تخوُّف من هذه الحروب الباردة التي تشتعل بقوة بين الدول الكبرى، وتلك الحساسيات والخلافات والتنافس على المكاسب المباشرة وغير المباشرة، للبحث عن الترياق، بل لا مبالغة في القول إن اللقاح الموعود هو محور حرب جيوسياسية كبرى بين الولايات المتحدة والصين تكون تتمة للجبهات الأخرى، خصوصاً التجارية، مما يجعلنا أمام التساؤل الأخطر: هل يعني هذا أن الاستثمار السياسي والاقتصادي لهذا الوباء العالمي سيكون على حساب صحة البشر؟ وهل نحن أمام موجة أخرى من الموتى تحت شعار (السباق العالمي) لمحاربة الوباء؟!!
يبدو أننا مازلنا أمام أزمه أخلاقية كبرى، أبطالُها الكبار، في سباق محموم للظفر بالمال، وعقدة قيادة العالم، وما زال الكبار بلا أخلاق رغم التجارب القاسية التي مر بها سكان الكون، وما زال توحشهم المادي يزداد أمام أزمه موت شعوبهم، واقتصاداتهم المنهارة.
شيء لا يصدق أن يتسابق الكبار على الموت بدلاً من توحدهم الجماعي للعثور على ما يسمى (الرصاصة السحرية) لقتل الفيروس، والبحث عن (إكسير الحياة) لإدامة الأمل والسعادة، مثلما ناسف لكون العالم منقسماً لا تنسيق فيه ولا قيادة لمعركة اللقاح، بل هناك من يتحدث بلا تردد عن فتح جبهات جديدة في الحروب وتنشيط الكوارث وافتعال الأزمات!
يثبت أن حكّام الأرض لم يتعلموا شيئاً من دروس التاريخ القاسية، وهم الذين أزعجوا سكان الأرض بمزاجهم وسلوكهم الصبياني، أكثر من الفيروس نفسه، لذلك فإن الحل هو اختراع لقاح طبي _ سياسي يقتل نرجسيتهم المريضة، ويخرجهم من التاريخ إلى القبور لتخليص البشرية من أطماعهم وشرورهم وغطرستهم.
كنت أتمنى لو كان من يحكم العالم اليوم أكثر صدقاً وإنسانية وشفافية في مواجهة مأساة الفيروس!
حقا ..كم يكبر حجم المأساة في المهازل!
اضف تعليق