فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي. فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج...
في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب.
ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم.
فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات.
فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي.
فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي. وهذا يجعلنا نؤكد في هذه الخاتمة على النقاط التالية:
1- ثقافة سياسية جديدة:
إن التحولات الكبرى التي تجري في العالم اليوم، تؤكد على ضرورة بلورة ثقافة سياسية جديدة، ترى في الحوار جسر الوفاق الوطني، وإن السلم الأهلي والمجتمعي، هو مستقبلنا الذي ينبغي أن تسعى كل التيارات والوجودات إلى إنجازه، وإنضاج الظروف المؤدية إليه.
فالمصالحة السياسية التي ندعو إلى إرساء قواعدها الحضارية، وتوفير ظروفها الذاتية والموضوعية، بحاجة دائماً وفي كل المراحل إلى ثقافة سياسية جديدة، تمارس عملية القطيعة المعرفية والمرجعية مع ثقافة التعصب والإقصاء والنبذ والعنف، لتؤسس نمطا ثقافيا سياسيا جديدا، يأخذ من قيم الحرية والمسؤولية وحقوق الإنسان كرامته، الإطار المرجعي لهذا النمط.
ولا بد أن ندرك في هذا الإطار، أن الثقافة السياسية الجديدة، لا تبنى في لحظة زمنية واحدة، وإنما هي بحاجة إلى عملية تراكم معرفي ومجتمعي، حتى تتشكل تلك الثقافة السياسية الجديدة، التي نراها ضرورية للمصالحة السياسية المنشودة. وذلك لأن "الفكر والثقافة ليسا بنية معرفية مغلقة تتناسل معطياتها بينها كالفطر، بل هو يمثل مستوى من مستويات (أو لحظة من لحظات) التعبير عن المحيط الواقعي والتاريخي.
وبالتالي، فالأفكار لا تكتسب قيمتها من نفسها مجردة، بل من قدرتها على تمثيل اللحظة التاريخية، والتعبير عنها، والمساهمة في تغييرها ثورياً". (راجع: العولمة والممانعة - دراسات في المسألة الثقافية - عبد الإله بلقزيز - ص83-82)
ودواعي ومسوغات بناء ثقافة سياسية جديدة في المجالين العربي والإسلامي عديدة، ولعل من أهمها حالة الإخفاق التي لحقت بالمشروعات الفكرية والسياسية المتداولة في الفضائين العربي والإسلامي. وذلك لأن الكثير من عناصر الثقافة السياسية السائدة، مستمدة من تلك المشروعات. وإخفاق هذه المشروعات، لا شك يدفعنا إلى ضرورة مراجعة هذه الثقافة، والعمل على بناء حقائق سياسية نظرية وعملية جديدة، تتجاوز عوامل الإخفاق الذاتية والموضوعية في تلك المشروعات. كما أن استيعاب التحولات الكبرى، ومعرفة رهانات العمل الجديدة على المستويين الإقليمي والعالمي، بحاجة إلى تجديد الثقافة السياسية، والوعي السياسي والحضاري، حتى يتسنى للعالمين العربي والإسلامي من تجاوز عوامل الفشل والإخفاق، وامتصاص نقاط القوة، وفهم محركات وآليات العمل الجديدة.
2- تنظيم العلاقة بين الثقافي والسياسي:
لعل من المداخل الأساسية لنهوض الأمة في هذا العصر، وللخروج من المآزق الحضارية والمجتمعية التي يعانيها راهننا وواقعنا، هو تنظيم العلاقة بين الثقافي والسياسي، وذلك من اجل الاستفادة من كل الطاقات في سبيل البناء، ولمنع توترات وحروب تهدر طاقات الأمة في سياق الهدم والقطيعة مع مكونات الأمة المختلفة. فاستبداد السياسي يدفعه إلى العمل على إخضاع الثقافي إلى كل توجهاته وخياراته، مما يلغي فعالية الثقافي على مستوى المعرفة والمجتمع. كما أن نرجسية الثقافي في بعض الأحيان، تدفعه إلى التخلي عن الساحة الاجتماعية، والانعزال عن خيارات الأمة بدعاوى وتبريرات مختلفة. مما يجعل الساحة حكراً للسياسي ومشروعاته المميتة لروح الأمة. وقد عانت الأمة خلال العقود الماضية، من الكثير من النزاعات والحروب والتوترات، جراء العلاقة السيئة بين السياسي والثقافي في المجالين العربي والإسلامي.
لذلك نرى أن أحد العوامل الرئيسة، للخروج من واقعنا المأزوم، تنظيم العلاقة بين حقلي السياسة والثقافة في تجربتنا الإسلامية المعاصرة.
وفي البدء ينبغي أن ندرك أنه ليس في مقدور أحد، إلغاء قانون التدافع الاجتماعي بين جميع القناعات والمكونات. لذلك فإن المطلوب تنظيم هذا التدافع بحيث يكون في سياق البناء والعمران الحضاري، لا في سياق النزاعات الهدامة والحروب العبثية.
إن معيار القوة هو الذي يحكم علاقة السياسي بالثقافي. بمعنى أن السياسي بما يمتلك من قوة وأدوات للفرض والقهر والتخويف، فهو يمارس دور الإخضاع لكل ما عداه. وسيبقى هذا النمط من العلاقة مسيطراً بين السياسي والثقافي، ما دام الأخير لا يمتلك عناصر قوة ووقائع مجتمعية تساند خياراته وتدافع عن انشغالاته.
لذلك نرى أن بوابة تنظيم العلاقة بين السياسي والثقافي في تجربتنا المعاصرة، هي أن يمتلك الثقافي مقومات الاستقلال ومكونات القوة ووسائل للتأثير بشكل مباشر.
فوحدها القوة (بالمعنى الحضاري) للثقافي، هي القادرة على تنظيم العلاقة مع السياسي. وذلك عبر الوصول إلى مستوى من توازن القوة بين الطرفين، يدفع هذا التوازن ومتوالياته المجتمعية، إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة السائدة، وذلك من منطلق واقعي-مصلحي، بحيث لا يمكن لأي طرف من إلغاء الطرف الآخر من الخريطة الاجتماعية.
هذا في تقديرنا هو الطريق الواقعي، لتنظيم العلاقة بين السياسي والثقافي في تجربتنا المعاصر. وبدون بناء القوة الحضارية للثقافي، ستبقى العلاقة بينه وبين السياسي، إما علاقة توتر وتأزم ونزاع، أو علاقة إخضاع وتبعية وإذلال. وكلتا العلاقتين تفضيان إلى توتر الأوضاع الاجتماعية وتأزم الحالة السياسية، والدخول في حروب جانبية، مما يعرقل مسار النهوض الحضاري في الأمة.
وأزمة المثقف والسلطة في التجربتين العربية والإسلامية المعاصرتين، مرآة لأزمة الثقافي مع السياسي في واقعنا الراهن. وستبقى هذه الأزمة، تأخذ أشكالاً مختلفة، ما دام الثقافي هامشياً وبعيداً عن مكونات القوة الحضارية.
3- عقد اجتماعي-سياسي جديد:
إن طبيعة العلاقة المأمولة بين السلطة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، تتطلب العمل والسعي الجاد لتأسيس عقد اجتماعي-سياسي جديد بين الطرفين، يحافظ على حقوق كل طرف، ويبلور ويحدد واجباتهما ومسؤولياتهما أيضاً.
وهذا العقد الاجتماعي-السياسي هو الذي يحفظ مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوترات والأزمات، وجود عقد ينظم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعددة. ويحدد الأهداف المرحلية والإستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل قوة.
ولاشك أن العقد الاجتماعي-السياسي، الذي نتطلع إليه، سيساهم في ردم الفجوة بين السلطة والمجتمع، وسيقرب من خياراتهما، وسيذوب العديد من الحجب التي تحول دون التفاعل المطلوب بين الطرفين. وهذا العقد المأمول، ليس وصفة جاهزة، وإنما ينبغي أن تسعى جميع قوى الأمة ومؤسساتها في إنشائه وبلورة عناصره وبنوده، وتوفير الأرضية الاجتماعية المناسبة لاحتضانه والدفاع عنه وتطويره.
وجماع القول: إن تنظيم العلاقة بين الأمة والدولة في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى العديد من الجهود والإمكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة جماهير الأمة من جديد ووفق أهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية. وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، بحيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس.
كما أن تنظيم العلاقة بحاجة إلى عقد اجتماعي-سياسي جديد، يستوعب جميع التحولات، وينصت إلى جميع التطلعات والطموحات، ويخلق آليات عمل جديدة، تترجم جميع التطلعات الإنسانية إلى وقائع قائمة وحقائق محسوسة.
إننا نعيش في زمن الأسئلة الصعبة والحسابات الدقيقة والمعقدة، لذلك ينبغي أن لا ننجرف تجاه الأوهام، وإنما نحاول أن نبني قناعتنا ومواقفنا استناداً إلى الحقائق والوقائع القائمة، وذلك ليس من أجل الانحباس فيها أو الخضوع إلى السيئ منها، وإنما لكي تكون حركتنا ومواقفنا ووجهتنا منسجمة ومنطق التاريخ الإنساني. فالإنصات الواعي إلى تساؤلات الواقع وتحديات الراهن، يؤدي إلى نضج الخيارات وسلامة الإستراتيجيات، وذلك لأن هذا الإنصات هو الذي يؤدي إلى تحديد البداية السليمة لعملية الانطلاق في معالجة المشكلات وبلورة الحلول.
إننا جميعاً مطالبون في ظل هذه الظروف الحساسة والخطيرة، بفتح عقولنا ونفوسنا على العصر وآفاقه، حتى تتكامل اهتماماتنا، ونزداد قدرة على اجتراح تجربتنا في البناء والتنمية والعمران الحضاري.
وبما أن هناك علاقة وطيدة بين منظومة الأفكار وطبيعة المشاعر والميول النفسية العامة. حيث أن الثقافة التي تختزن البغض والكراهية للآخرين، فإنها ستنعكس على مشاعر الأفراد والمجتمعات الملتزمة بتلك الثقافة. لذلك فإن المطلوب باستمرار تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع وأمة، والعمل على إزالة وطرد كل العوامل والأسباب التي تدعو إلى العداء الذاتي أو ممارسة أشكال الإقصاء والتهميش للآخرين. وعملية التنقية المطلوبة، ليست عملية سلبية فقط مهمتها طرد عناصر الكره والبغض في الثقافة، بل هي عملية إيجابية أيضا تستهدف تعميق أسس ثقافة الانفتاح والتسامح والمحبة والألفة، وتكريس مقتضياتهما في البناء الاجتماعي.
إذ إننا نرى أن المسؤول عن العديد من ظواهر الكراهية وحالات التهميش والإقصاء، هي تلك الثقافة التي تسوغ لأبنائها هذه الممارسات والسلوكيات. ولا وقف لها إلا بتغيير الثقافة ومناهج التثقيف والتربية التي تكرس هذه العقلية، وتوفر لها التبريرات اللازمة. إننا بحاجة إلى ثقافة تحتضن الجميع كما تعبر عنهم جميعا، وتغرس في نفوس الناس وعقولهم حب الناس وضرورة خدمتهم والتحلي بالأخلاق الفاضلة والسلوك القويم في التعامل معهم. هذه الثقافة هي التي تعمق خيار المحبة في المحيط الاجتماعي.
أما الثقافة التي تصنف الناس، وترتب مواقفها التفاضلية بين الناس على قاعدة ذلك التصنيف، فإنها تعمق الإحن وتزرع الأحقاد وتطمس كل نوازع الخير في النفس الإنسانية. لذلك فإن المطلوب دائما، هو تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع، ورصد مظاهر الانحراف والزيغ في هذه الثقافة، ومن ثم العمل على إخراج كل ما يسئ التفاضلية بين الناس على قاعدة ذلك التصنيف،. لذلك فإن المطلوب دائما، هو تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع الناس من التداول والتأثير. وهذه مسئولية كبرى، تتطلب تظافر كل الجهود والإمكانات في سبيل بلورة ثقافة اجتماعية ووطنية تعمق خيار المصالحة والوئام، وتحارب كل أشكال التمييز والتهميش بين البشر..
اضف تعليق