فباسم الواقعية السياسية ومتطلبات الأمن والاستقرار يتم إعاقة وتعليق الديمقراطية!، وباسمها يتم السكوت عن الفساد وإهدار المال العام!، وباسم الواقعية السياسية يتم التطبيع مع إسرائيل بذريعة أنه يتجاوب مع التطورات والتحولات التي يشهدها النظام العالمي بشكل عام والصراع العربي الإسرائيلي على وجه الخصوص وأن التطبيع...

يجب الحذر من السياسيين الفاشلين والمتحذلقين الذين يبررون كل سلوكياتهم الخاطئة بأنها تندرج في سياق الواقعية السياسية ويُظهرون أنفسهم بأنهم الأكثر عقلانية وعلمية وفهماً للواقع وكل مَن يعارضهم غير واقعي ولا عقلاني، بل يصل بهم الأمر للتنكر للتاريخ الوطني وللقيادات الوطنية السابقة وتحميلها وزر ما آلت إليه الأمور.

أن تقترن الواقعية السياسية بسياسات وقادة يؤمنون بالقوة وحسابات موازينها وبإعلاء شأن المصلحة القومية وبالسياسة الأمريكية وسياسات دول الغرب عموماً لا يعني أن مُجمل نظرية الواقعية السياسية خاطئة وسيئة، لأن الخلل ليس فيها كنظرية تدعو للعقلانية والواقعية والابتعاد عن الديماغوجية والشعاراتية والأيديولوجيات المثالية البعيدة عن الواقع، بل يكمن الخلل في التوظيف الفج لها من خلال اللجوء إلى القوة المفرطة والاستهانة بالقيم الإنسانية والشرعية الدولية، وهذا نهج مُدان دولياً حتى وإن كانت الأنظمة التي تمارسه منتخبة ديمقراطياً وسياساتها تحظى بقبول شعبي داخلي، والخلل الأكبر عندما يتم توظيف الواقعية السياسية أو الادعاء بها من سياسيين لتبرير عجزهم وفشلهم وأنه ليس في الإمكان خير مما كان.

سبق وأن تحدثنا عن الواقعية السياسية في العلاقات الدولية وكيفية توظيف الدول الكبرى لهذه السياسة للسيطرة والهيمنة، ولكن الغريب ما يجري من افتراء وتشويه للواقعية السياسية من الكيانات السياسية أو الأفراد في العالمين العربي والإسلامي حيث أصبح القول بها مدخلاً لكل من يريد إخفاء فشله وعجزه وحتى تآمره، مما وسمها بسمعة سيئة على عكس معناها ودلالتها الحقيقة.

إن كانت نظرية الواقعية السياسية في بداية ظهورها تقترن بالقوة والحرب والفوضى وأن الحق تصنعه القوة الخ إلا أنه تم تهذيبها وعقلنتها وأصبحت مقبولة في التعامل الدولي والوطني باعتبارها نقيض الاستسلام للأمر الواقع ونقيض الهروب من الواقع نحو الشعارات والايديولوجيات أو نحو الاستنجاد بالتاريخ المجيد والسلف الصالح.

الواقعية السياسية في عالم اليوم تعني فهم الواقع بشموليته ووضع الخطط والاستراتيجيات الوطنية للتعامل معه بأبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية والمجتمعية والتخطيط العقلاني لخلق حالة تكيف وموائمة مع كل المستجدات في عالم يتطور ويتغير بوتيرة متسارعة، ولكن دون التقليد الأعمى والتبعية والأخذ بكل جديد بدون تَبَصر، بل يتطلب الأمر التصادم مع الجوانب السلبية للواقع والوافد المتعارض مع المصلحة الوطنية وثقافة وهوية الأمة بما هو ممكن ومتاح من إمكانيات، وفي نفس الوقت تطوير الجوانب الإيجابية والبناء عليها.

صحيح أن العالم يتغير بوتيرة سريعة والاقتصاديات والمصالح تتداخل مع بعضها والايديولوجيات تتفكك، ولكن هناك مبادئ وقواعد عالمية ثابتة لا تؤثر فيها هذه المتغيرات تغييراً جوهرياً ويستمر توافق غالبية دول العالم عليها، كحق تقرير المصير للشعوب وحق الدفاع عن النفس ورفض الاحتلال ومحاربة العنصرية والإرهاب، وهذه مبادئ وقيم إنسانية دولية لا تتناقض مع الواقعية السياسية بل تمثل جوهر هذه الواقعية، لأن الواقعية السياسية وإن كانت تقوم على المصالح وتوازن القوى إلا أنها سياسة عقلانية، وإن كان للدول الكبرى التي تأخذ بالواقعية السياسية رؤية مختلفة للقانون الدولي والشرعية الدولية إلا أنها لا تستطيع انكار الشرعية الدولية وحق الشعوب بالحرية والاستقلال وتقرير المصير وإلا سادت الفوضى في العالم .

أما في العالم العربي، فباسم الواقعية السياسية ومتطلبات الأمن والاستقرار يتم إعاقة وتعليق الديمقراطية!، وباسمها يتم السكوت عن الفساد وإهدار المال العام!، وباسم الواقعية السياسية يتم التطبيع مع إسرائيل بذريعة أنه يتجاوب مع التطورات والتحولات التي يشهدها النظام العالمي بشكل عام والصراع العربي الإسرائيلي على وجه الخصوص وأن التطبيع مع إسرائيل يندرج في سياق الواقعية السياسية التي تعطي للمصالح الأولوية على حساب العلاقات والتحالفات القائمة على الأخلاقيات والأيديولوجيات!، وباسم الواقعية يتم المساومة على الحقوق الوطنية المشروعة ومهادنة الاحتلال ووقف المقاومة بل واعتبارها إرهاباً، ومحاولة إلهاء الشعب بمسيرات ومظاهرات تحاول أن تخفي بها الطبقة السياسية فشلها وتُظهِر وجودها وتقطع الطريق على غيرها أو على أي نهج مغاير لنهجها، إلا أنها مظاهرات ومسيرات ولقاءات أقرب للتهريج السياسي ما دامت لا تغير شيئا في موازين القوى أو تؤثر على العدو !.

وأخيرا نحذر من سياسة كي الوعي التي تمارسها إسرائيل والبعض من العرب والتي تهدف إلى تشويه الرواية والتاريخ الفلسطيني والزعم أن سبب ما آلت إليه القضية الفلسطينية يعود لأن القادة الفلسطينيين السابقين كانوا يفتقرون للواقعية السياسية، وعليه، فإن الفلسطينيين يتحملون وزر أخطاء قادتهم وأخطاء الأنظمة العربية التي كانت تدعمهم وتتبنى قضيتهم، وبالتالي عليهم الأخذ بـ (الواقعية السياسية) التي تعني من وجهة نظر إسرائيل ومؤيديها الاعتراف بالأمر الواقع والقبول بما يتم عرضه على الفلسطينيين سواء كانت صفقة ترامب أو غيرها !!!.

Ibrahemibrach1@gmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق


التعليقات

مسلم عباس
شكرا دكتور ابراهيم على هذا المقال الرائع.. لكن يبدو انه يريد ان يعطي للنظرية الواقعية اكثر مما تحتمل، فجوهر هذه النظرية يفترض ان العالم يسوده الفوضى، ولكي تعزز الدولة موقعها عليها زيادة قوتها العسكرية والاقتصادية. فاساس هذه النظرية قائم على القوة وهذه الاخيرة لا تحدث الا من خلال الهيمنة، والهيمنة علاقة غير متوازنة بين طرفين طرف متسلط واخر خاضع..
اعتقد ان النظرية سيئة وتطبيقاتها تسببت بكوارث للعالم بحجة حماية المصالح القومية وتعزيز القوة في قبال القوى الاخرى.2020-07-27