بعيد سقوط النظام الدكتاتوري، طرحت بعض الاوساط مصطلح عراقيو الخارج، وجرت اشاعة هذا المصطلح بطريقة من شأنها تعميق الفجوات بين ابناء المجتمع الواحد. وهي فكرة تتعارض تماما مع العمود الفقري للثقافة السياسية الديمقراطية واعني به المواطنة. فالمواطنة تعني النظر بعين المساواة الى جميع المواطنين بدون التمييز...
ذكرت يوم أمس ان هناك خللا في الثقافة السياسية عندنا، وانا اعزو هذا الخلل بشكل اساسي الى الحصار الثقافي الذي فرضه النظام الصدامي على المجتمع العراقي، فانا اذكر اننا نعيش حالةً جيدة من الانفتاح الثقافي والفكري منذ عام ١٩٥٨ الى عام ١٩٦٨، عشر سنوات شهدت نشاطا فكريا وثقافيا واعلاميا معقولا في بلد شرقي عالم ثالثي.
كان الاعلام يتمتع بحرية جيدة، وطباعة الكتب نشطة، وكذلك استيراد الكتب والصحف ومختلف المطبوعات. وفي ذلك الوقت انتشر القول بان "القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ". وفي تلك الفترة الف السيد محمد باقر الصدر كتاب "فلسفتنا" و"اقتصادنا" وصدرت مجلة "الاضواء" في النجف، وغيرها.
لكن المشهد انقلب راسا على عقب مع استحواذ حزب البعث على السلطة في ١٧ تموز من عام ١٩٦٨، حيث بدأ بفرض حصار ثقافي وفكري واعلامي على العراق، انتهى بفرض نظرية حزبية شوفينية عنصرية رجعية متخلفة على العراق، وصار العراق يصبح ويمسي على خطب واقول وحكم صدام حسين البدوية المغلقة البعيدة عن الحضارة والتحضر والمدنية والتقدم، رغم مزاعمه العلمانية، وتمسحه بمصطلح "الاشتراكية العلمية"، لخداع الشيوعيين، وهم اهل الثقافة والفكر في العراق آنذاك.
وكان الغرض من هذا الحصار الثقافي واضحا، وهو تسطيح وعي المواطن العراقي، وتجهيله، وكأن صدام حسين كان يطبق ايتين في القران جاءتا في سياق كشف تصرفات الحكام الظلمة، حيث تقول الاولى على لسان فرعون: "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"، وتقول الثانية منهما: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ".
بعد سقوط النظام المتخلف فكريا، تولت زمام الامور طبقةٌ سياسيةٌ يعوزها الكثير من الثقافة السياسية المعاصرة، وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم الديمقراطية والمواطنة، والتمييز بين الدولة والنظام والحكومة، والهندسة السياسية، ولم يكن بالامكان عمل الكثير من اجل رفع مستوى الثقافة السياسية في البلد، ولم يتم الاهتمام بالنظام التربوي باعتباره منطلق التنشئة السياسية الحديثة للمجتمع، فجاءت عيوب التأسيس واخطاء الممارسة. وهكذا بقي الخلل الحاد في الثقافة السياسية مؤثرا على المشهد الشعبي والرسمي معا.
وقد انعكس ذلك على الحراك الجماهيري الذي اشاع تصورات خاطئة تتناقض مع الثقافة السياسية السليمة، وقد ذكرت يوم امس نقطتين، واليوم اواصل ذكر نقاط اضافية تتمة لتسلسلها في المقال السابق:
٣. بعيد سقوط النظام الدكتاتوري، طرحت بعض الاوساط مصطلح "عراقيو الخارج"، وجرت اشاعة هذا المصطلح بطريقة من شأنها تعميق الفجوات بين ابناء المجتمع الواحد. وهي فكرة تتعارض تماما مع العمود الفقري للثقافة السياسية الديمقراطية واعني به المواطنة. فالمواطنة تعني النظر بعين المساواة الى جميع المواطنين بدون التمييز بينهم على اساس الدين او المذهب او الطبقة او المنشأ الاجتماعي فضلا عن "الداخل" و "الخارج".
ورغم ان التظاهرات الاحتجاجية كانت تطالب بالاصلاح، الا انها وقعت في مطب اتخاذ موقف سلبي من "عراقيي الخارج" الى درجة اطلاق حكم تعميمي عليهم بالفساد وعدم الولاء للوطن. رغم ان الدستور سمح للعراقي بحمل جنسية اخرى، لكنه منعه من تولي منصب سيادي في الدولة. والمؤسف ان رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي راح هو الاخر يعزف على هذه النغمة متحدثا عن "عراقيي الخارج" و "عراقيي الداخل"، ومتخذا موقفا منحازا؛ وهذا لا يليق بمن يتولى منصبا عاما لا يخص فئة او شريحة اجتماعية دون غيرها.
٤. وشاعت ايضا عبارة "المجرّب لا يجرّب" ونسبت بمعناها الاطلاقي الى المرجعية الدينية، زورا وبهتانا، والمرجعية بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف، وللحديث صلة.
اضف تعليق