حتى الدول الموصوفة بالرأسمالية، اصبحت ترى تدخل الدولة من متطلبات تحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية، وهذا التطور يبعدنا عن الاستقطاب الثنائي بين الرأسمالية والاشتراكية ويفتح الباب ام التوافق العالمي على مفهوم الدولة الحضارية الحديثة الذي يقر الملكية الفردية ودور القطاع الخاص ويحميه، وفي نفس الوقت يقر تدخل الدولة في الحياة...
وظيفة الدولة عامة، والدولة الحضارية الحديثة خاصة، رعاية شؤون ومصالح الناس، وفي مقدمة هذه المصالح ضمان ان يحصل الانسان على عمل او مورد رزق لتأمين متطلبات معيشته هو وافراد عائلته. ويحصل هذا في الدولة الحضارية الحديثة عن طريق قيام الدولة بتوفير شروط تمكن الفرد من العمل الخاص في الصناعة او الزراعة او التجارة او الخدمات. وتفعل الدولة ذلك عن طريق التشريعات والقوانين التي تصدرها لتنظيم الحياة الاقتصادية على افضل وجه.
وهذا هو احد جوانب تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. واذا تجاوزنا الخلاف الرأسمالي - الاشتراكي القديم حول هذه المسألة، فان الدول الان، حتى الموصوفة بالرأسمالية، اصبحت ترى تدخل الدولة من متطلبات تحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية. وهذا التطور يبعدنا عن الاستقطاب الثنائي بين الرأسمالية والاشتراكية ويفتح الباب ام التوافق العالمي على مفهوم الدولة الحضارية الحديثة الذي يقر الملكية الفردية ودور القطاع الخاص ويحميه، وفي نفس الوقت يقر تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لضمان انسيابية الحياة بشكل سليم. وهذا الامر هو الذي نظّر له السيد محمد باقر الصدر، واصلّه فقهيا قبل حوالي ٦٠ سنة في كتابه القيم "اقتصادنا"، واصبح الاقتصاد يقوم على دعامتين هما: النشاط الفردي الخاص، ومن ضمنه الشركات المساهمة، وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.
وقد تجلى هذا بصورة واضحة في بريطانيا بعد انتشار وباء covid-19 واضطرار الشركات الاهلية الى اغلاق مكاتبها بناء على تعليمات الحكومة التي اجازت العمل من البيت بالنسبة للأعمال التي يمكن انجازها من البيت. لكن بعض الشركات لم يكن بمقدورها مواصلة العمل لا من المكاتب ولا من البيوت، فاضطرت الى اتباع سياسة الfurlough التي تعني اعطاء الموظفين اجازة بدون راتب. ولكن هذه السياسة كانت ستقذف ملايين الناس في دائرة الفقر وحرمانهم من المورد المالي اللازم للعيش.
وهنا تدخلت الحكومة وقررت ان تساعد الشركات المعنية وذلك بدفع ٨٠٪ من راتب الموظف، وبذلك تكون اجازته الاجبارية مدفوعة الثمن، ولكن ليس من قبل الشركات ولكن من قبل الدولة. وشمل هذا الاجراء تسعة ملايين موظف في القطاع الخاص وبلغ المبلغ المدفوع حتى الان ٢٠,٨ مليار جنيه استرليني حتى الان والمتوقع ان يرتفع الرقم الى ٨٠ مليار جنيه استرليني في شهر تشرين الاول. والمأمول ان تتمكن الشركات الى استئناف عملها بشكل طبيعي اذا انحسرت ازمة الفيروس.
والسؤال الذي قد يطرحه القارئ هو: من اين تأتي الحكومة البريطانية بهذه الاموال؟
المعروف ان بريطانيا ليست دولة ريعية، وان النفط الذي يتم استخراجه من بحر الشمال ليس ملكا للدولة، كما هو الحال عندنا، وانما ملك للشركات الخاصة. والمهم ان نعرف هنا ان الشعب العامل هو الذي يمول الحكومة وذلك عن طريق دفع الضرائب، وهي كثيرة، مثل ضريبة الدخل، وضريبة البلدية، وضريبة الشارع، وضريبة الشراء، وغير ذلك. ولكل هذه الضرائب اسماء خاصة باللغة الانجليزية لم اذكرها خوفا من الاثقال على القارئ. هذا لا يشمل خدمات الكهرباء والماء والتلفزيون لان هذه الخدمات تقدمها الشركات الاهلية للمواطنين مقابل ثمن، لكن من الطبيعي ان تفرض الدولة ضرائب على هذه الشركات. هذا هو مصدر الاموال التي تدفعها الدولة الان للموظفين الذين خضعوا لإجراء الاجازة الاجبارية. وهو نفس المصدر الذي تدفع منه الدولة للأشخاص العاطلين او العاجزين او كبار السن. وهذا يعني ان المجتمع في الدولة الحضارية الحديثة هو الذي ينفق على الدولة وعلى المواطنين المحتاجين بتوسط الدولة. وهذا هو نفس المبدأ الذي نص عليه القران الكريم بقوله: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ". وهذا هو احد مصاديق قولي ان القيم الحضارية، السماوية والارضية، تتكامل كلما تطور المجتمع البشري في سيره الحضاري الطويل.
اضف تعليق