النظام العالمي بعد جائحة كورونا سيخضع لتحولات هيكلية على مستوى ميزان القوى وقيادة العالم في تطوراته المستقبلية، نتيجة لما خلفته هذه الجائحة من تداعيات على السياسات الداخلية والخارجية للدول. إذ قامت معظم الدول بإعادة ترتيب أولوياتها لمواجهة المخاطر الجسيمة التي تبلورت نتيجة تفشي جائحة كورونا...
يكاد أغلب المختصين في دراسة العلاقات الدولية يتفقون على إن النظام العالمي بعد جائحة كورونا سيخضع لتحولات هيكلية على مستوى ميزان القوى وقيادة العالم في تطوراته المستقبلية، نتيجة لما خلفته هذه الجائحة من تداعيات على السياسات الداخلية والخارجية للدول.
إذ قامت معظم الدول بإعادة ترتيب أولوياتها لمواجهة المخاطر الجسيمة التي تبلورت نتيجة تفشي جائحة كورونا خصوصا في الجانبين الصحي والاقتصادي، إلى درجة انهمكت فيها كل دولة باتخاذ العديد من الإجراءات للتخفيف من حدة هذه المخاطر بمعزل عن الدول الأخرى، مما دفع البعض إلى القول بأن الكثير من استراتيجيات العولمة التي تتبعها الدول الكبرى والشركات العابرة للحدود قد تلاشت أو ضعفت وفق إطار أشرّ تراجع واضح للتعاون الدولي والتكامل في الأدوار وتوحيد الجهود للحدّ من الانتشار الواسع لفيروس كورونا مما يعرض البشرية جمعاء لعواقب مخيفة.
ومن الطبيعي أن تؤدي الأزمات الكبرى إلى تبديل مواقع القيادة والهيمنة للقوى العظمى على النظام العالمي بحيث يتراجع البعض ويتقدم البعض الآخر اعتمادا على كفاءة الإستراتيجية التي تتبعها الدول في مواجهة هذه الأزمات، ولا شك إن جائحة كورونا تُعد أزمة كبرى ألقت بظلالها على جوانب عديدة من نشاطات العالم السياسية والاقتصادية ولاجتماعية والصحية والتكنولوجية وحتى العسكرية، وستترك هذه الأزمة آثارا سياسية واقتصادية على النظام العالمي ربما تستمر لأجيال عديدة بالتزامن مع تغيير واضح في أنماط العلاقات الاجتماعية داخل الدول وأنماط العلاقات الدولية في النظام العالمي، وبما إن الهيمنة والقيادة يشكلان أبرز معالم النظام العالمي والذي تتصارع عليهما القوى العظمى والمتحكمة في مجريات الأحداث العالمية، فإن النقاش يحتدم حول احتمالية أن يشهد العالم تغييرا في مراكز السيطرة والتحكّم وفق نسق يحمل في جنباته تراجع للدور الأمريكي في النظام العالمي.
وهنا يُثار التساؤل المهم ألا وهو: من سيقود العالم بعد جائحة كورونا، الصين أم الولايات المتحدة الأمريكية؟
والإجابة على هذا السؤال تتطلب قراءة متأنية في حجم الصدمة التي سببتها جائحة كورونا على مجمل الأوضاع الاجتماعية والصحية والاقتصادية والسياسية العالمية وعلى الآليات التي اتبعتها الدول في مواجهة هذا الخطر الجسيم، وتشخيص الدول التي حققت نجاحا واضحا في احتواء جائحة كورونا ومعالجة آثارها.
ومن المؤكد أن الصين قد تميّزت عن غيرها في إتباعها إستراتيجية أفضت إلى النجاح في مواجهة جائحة كورونا من خلال وسائل أمنية وصحية وتقنية فاعلة، في حين تلكأت أوروبا والولايات المتحدة وأصابها الإرباك عندما تفشت الإصابة بجائحة كورونا في هذه البلدان مما أثرّ سلباً على مجمل النشاطات في هذه الدول، وبهذا يحقّ للصين أن تتفاخر بنظامها الذي أثبت تفوقه على الآخرين. وحتى في مجال تنظيم جهود الدول والمنظمات الدولية لمواجهة الأزمة فقد أبدت الصين تعاونا واضحا في هذا المجال من خلال إعلانها عن استعدادها لتقديم العون والمساعدة للدول التي تعرضت شعوبها لخطر جائحة كورونا وذلك بتقديم المساعدات المادية والخبرات العلمية وهذا ما تمّ فعلا عندما أرسلت فرقا طبية وأدوية وأجهزة إلى عشرات من الدول منها العراق وإيران وإيطاليا وصربيا مما خلق انطباعاً إيجابياً عن الصين كونها قدمت نموذجاَ جيداً للتعاون الدولي في التخفيف من آثار جائحة كورونا.
في حين اتبعت الولايات المتحدة سياسة الانكفاء والعزلة وانشغلت بمعالجة جراحها وتخلت عن أقرب حلفائها ولم تقدم أي دعم للدول والشعوب المنكوبة، مما أنتج ازدراءً دوليا على مستوى الحكومات والشعوب في العالم تجاه الموقف الأمريكي غير الإنساني، في وقت استطاعت بكين إحداث تحوُّل كبير في السياسات العالمية، فلم تستطع الولايات المتحدة أن تكون القائد في الاستجابة العالمية لفيروس كورونا، إذ تنازلت عن بعض من هذا الدور مضطرة لصالح الصين، الأمر الذي جعل البعض يتنبأ بأن فيروس كورونا سيعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للعولمة بشكل جديد يخدم الصين.
ستعيد الأزمة الأخيرة تشكيل معتقدات الناس بصورة كبيرة، فبعدما كان العالم ينظر لأمريكا ودول أوروبا على أنهم المنقذ الأول للإنسانية في وقت الكوارث، باتت هذه النظرة مختلفة تماما، إذ يرسخ الاعتقاد بأن دور الصين بدأ في تصاعد على حساب تضاؤل دور الولايات المتحدة، كما أن المدافعين عن الاستبداد والمناوئين للديمقراطية سيجدون من يستمع إلى خطابهم في الصين وفي بلاد الغرب والشرق، وهو ربما ما كانت تسعى إليه الصين طيلة السنوات الماضية، فالنظام السياسي الصيني الذي يوصف بأنه شمولي استطاع تحقيق إنجازات كبيرة في المجالات كافة، في حين لوحظ وجود إخفاقات متكررة لدى النظم السياسية التي تدّعي بأنها ذات طبيعة ديمقراطية ليبرالية.
يقول فيتالي نعومكين رئيس معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية في موسكو: "إحدى أهم عواقب هذا المرض، هي التغيير الجذري في النظام العالمي، ومن الواضح، أن النظام الدولي الجديد سيكون متعدد الأقطاب، وستكون الصين بقوتها المتسارعة بالنمو والتي لا يمكن إنكارها هي التحدي الرئيسي لواشنطن". أما ويليام بيرنز، رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي فيقول: "النظام الدولي الليبرالي سيصبح أقل ليبرالية وأقل نظاماً"، فيما تقول نتالي توتشي، مديرة المعهد الإيطالي للعلاقات الدولية في روما: "قد يكون تراجع دور الولايات المتحدة هو إحدى خصائص العالم الجديد، مع أن هذا التراجع قد بدأ بالفعل اليوم"، بينما توقع برونو ماسياس، وهو كبير زملاء معهد هدسون، في تقرير نشرته مجلة ناشيونال ريفيو الأمريكية: "إنَّ الصين ستقود عملية إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد، في مرحلة ما بعد كورونا، وأنَّ بكين بنظامها المتماسك الصارم ستكون قادرة على السيطرة على العالم"، ويذكر برونو ماسياس في تقريره "إنَّه بمجرد انفجار كارثة عالمية، تتشكل لحظة من الفرص الإستراتيجية، ونقطة تحول نادرة في مسيرة التاريخ، مشيرا إلى ما أطلقه وباء كورونا من منافسة عالمية لاحتواء الفيروس الذي يبدو أن الصين واجهته بكل قوة وباستعداد فريد".
تسعى الصين لتوظيف أزمة كورونا لجني حزمة من المنافع والمكاسب، في مقدمتها تعزيز اعتماد العالم على الاقتصاد الصيني كمصدر أساسي للسلع والخدمات، فالصين (حسب التقارير) لديها إستراتيجية ما بعد الفيروس، وهي قيد التنفيذ بالفعل، إذ تخطط بكين لاستخدام التباطؤ الاقتصادي في الغرب لصالحها، وتعمل على جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستيلاء على حصة السوق في الصناعات الحيوية.
في حين يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على رسم خرائط النظام العالمي لوحدها ولا تتمكن من الحركة فيه بحرية مطلقة، فالعديد من شعوب وحكومات العالم تقاومها، ومما أضعف من هيمنتها تعاقب إدارات أمريكية منذ جورج بوش الأبن إلى دونالد ترامب تتصف بسلوك التعالي والغرور ولا تتمتع بالحكمة اللازمة لفهم طبيعة الشعوب وآليات التعامل معها، ولعلّ دونالد ترامب أبرز مثال على ذلك.
لكن رغم ذلك فمن المستبعد أن تفقد الولايات المتحدة دورها في الزعامة والهيمنة على النظام العالمي وستبقى مالكة لأكبر نسبة من أدوات التأثير والنفوذ والتحكم في التحوّلات التي يشهدها العالم، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها أنها ما زالت تستحوذ على أضخم اقتصاد في العالم حسب إحصائيات 2019، حيث يمثل 20% من إجمالي الناتج العالمي وبدخل قومي إجمالي يبلغ 18 تريليون دولار بينما تأتي الصين ثانيا بدخل قومي يقترب من 13 مليار دولار، ورغم محاولات الصين لتقليل الفوارق بينها وبين الولايات المتحدة في القدرات العسكرية لكن تبقى الولايات المتحدة هي المتفوقة في هذا المجال ابتداءً من حجم الإنفاق العسكري الذي بلغ في عام 2019 ما قيمته 732 مليار دولار بينما بلغ الإنفاق العسكري الصيني في نفس العام 261 مليار دولار.
وتبقى الولايات المتحدة متفوقة على الصين بحجم القدرات النووية حيث تبلغ نسبة الفارق بينهما 13 إلى 1، فضلا عن التفوق الأمريكي الواضح في ميدان الأسلحة الذكية، أما في مجال التكنولوجيا فإن أول الشركات التي ستتبادر إلى الذهن أبل، ومايكروسوفت، وجوجل، وأمازون، وفيسبوك، وجمعيها أمريكية تقابلها شركات مثل هواوي، وعلي بابا للتجارة الرقمية، وعند المقارنة بين الولايات المتحدة والصين في مجال التكنولوجيا فإن النتائج ستكون لصالح الولايات المتحدة، فبينما تأسست 48 شركة أمريكية عملاقة منذ عام 2000 تعمل في مجال التكنولوجيا والتجارة الرقمية، وبلغت قيمتها الإجمالية تريليون و370 مليار دولار، فإن آسيا بما فيها الصين شهدت ولادة 35 شركة برأسمال إجمالي 675 مليار دولار.
ومما تقدّم نخلص إلى القول: "إن ميزان القوى -رغم الآثار السلبية التي خلفتها جائحة كورونا- لا زال لصالح الولايات المتحدة بما يمكنها من الاستمرار في قيادة العالم ربما لعقود من الزمن، لأن الجميع تضرر من أزمة كورونا مع اختلاف بسيط في نسبة الضرر بين هذه الدولة وتلك، صحيح إن الولايات المتحدة لم تعد تهيمن على العالم بدرجة مطلقة، لكن الحديث عن أفولها وتراجعها عن زعامة العالم مازال مبكرا وفق مؤشرات قياس القدرات وعناصر القوة، وكما يقول مايكل بيكلي مؤلف كتاب (بلا منازع، لماذا ستبقى أمريكا القوة العظمى الوحيدة فى العالم): "الولايات المتحدة ستظل تمتلك قدرات أفضل عسكريا واقتصاديا وتقنيا حتى نهاية القرن الحالي، وإن الصين هي البلد الوحيد في العالم الذي يمكن أن يصارع الولايات المتحدة من حيث صافى المصادر والقدرات".
اضف تعليق