العراقيون اليوم يريدون استعادة العراق، وشعار نريد وطن الذي ملأ ساحات التظاهر هو أبرز تجليات هذا الشعور، وهذا لا يتحقق الاّ بنظام سياسي يضع مصالح العراق وشعبه فوق مصالح الساسة وتوجهاتهم العقائدية المتناشزة التي جعلت من البلاد ميدانا لصراعات، فتحت الابواب امام عواصف سياسية واقتصادية وامنية...
بين عامي 1900و1901 نشرت جريدة (البلاركون) البريطانية كتاباً بعنوان (بريطانيا للبريطانيين) للاشتراكي (بلا تشفورد)، الكتاب كان بمثابة صرخة بوجه السلطة، ودعوة للعدالة الاجتماعية الغائبة في الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس، وقتذاك!
في تلك المرحلة، كانت بريطانيا تعيش صراعاً طبقياً حاداً، و(حزب العمال الاشتراكي) الذي انبثق من رحم الحركة النقابية، بعد منتصف القرن التاسع عشر، باتت له جماهيرية واسعة، ما جعل المراقبين يتوقعون قيام الثورة الاشتراكية هناك وليس في روسيا القيصرية. اذ كان العمال وبقية الشرائح المحرومة الاخرى، يخوضون نضالاً مريراً ضد نظام الحكم (الليبرالي)، حينذاك، الذي بدا غير قادر على اقناع الناس بشرعيته. ومن يقرأ كتاب (تاريخ الاشتراكية البريطانية) لمؤلفه م. بير، سيطلع على الاوضاع الكارثية بشكل مفصل، فأمام حالة السخط المستمرة، اضطرت السلطات الى اصدار مايعرف بـ (قوانين التكتل) التي قضت بالقاء القبض على اي تجمع، بعد قيام العمال بتدمير ادوات العمل في المعامل العائدة للصناعيين الجشعين، ممن يجنون الارباح الهائلة ويعاملون هؤلاء البائسين كالعبيد.
لقد كتب (بلاتشفورد) كتابه او صيحته في تلك الظروف ليقول، ان الروح الوطنية غابت في البلاد، لان بريطانيا لم تعد للبريطانيين، وان شعوراً عاماً تفشى بينهم يؤكد هذه الحقيقة ... لم ينته هذا الشعور الاّ بعد الحملة الكولونيالية مطلع القرن العشرين ونجاح بريطانيا بالسيطرة على الكثير من دول الشرق مع فرنسا طبعاً، وتقاسمهما الغنائم التي أمّنت لهما السيطرة على موارد طبيعية هائلة، واسواق ضخمة ستنعش الدولة البريطانية وسيعود بعض منها للعمال الذين وجدوا انفسهم بعد ذلك في حال مختلفة، وفرتها لهم المنهوبات الكبيرة من الشعوب الاخرى! وهكذا استقر الحال هناك، ليغلي في شعوبنا التي اتاها (الاستعمار) بمشروعه الذي لم يخل من ايجابيات كبيرة، كان من ابرزها وعي الذات، بعد قرون من التغييب والظلام والتخلف، اعقبتها عقود من التعليم اسهمت في ظهور (انتلجسيا) نهضت بالبلدان واسهمت في بنائها.
صرخة (بلاتشفورد) تلك، تذكرتها ايام الحصار عندما ساد شعور لدى الكثير من العراقيين بان العراق لم يعد لهم، كونهم باتوا محرومين من اسباب الحياة المعقولة، وصاروا يفضلون الهجرة بحثا عن حياة اخرى، وقد تزامن هذا مع ظهور طبقة من القطط السمان وتجار الحروب والازمات، ممن تلاعبوا بمصائر الناس ولقمة عيشهم، وعلى الرغم من ان الحصار كان مفروضا بارادة خارجية، لكن تداعياته الداخلية المختلفة صارت درساً بليغا، علينا ان نعيد قراءته باستمرار، فالشعوب التي لا تتعلم من تجاربها ليست حيّة. وعلى من بايديهم امور الناس اليوم ان يدركوا هذا جيداً ويقرؤوا التاريخ بتمعن، لان لدى العراقيين قناعة تامة، بان خيرات البلاد نهبت، وان طبقة من القطط السمان الجديدة استحوذت عليها، تاركة السواد الاعظم من ابناء الشعب يعانون الفقر والحرمان، وتحت ضغط هذا الاحساس غابت الكثير من لمسات الثقافة الوطنية المطلوبة. هذا الشعور اذكاه الحديث مؤخرا عن استقطاع نسب من رواتب الموظفين والمتقاعدين، والتوجه للاقتراض الذي يزيد من حجم الديون، بينما الاموال تذهب لجيوب الفاسدين كالعادة، او هذا ماتراه الناس.
العراقيون اليوم يريدون استعادة العراق، وشعار (نريد وطن) الذي ملأ ساحات التظاهر هو ابرز تجليات هذا الشعور، وهذا لا يتحقق الاّ بنظام سياسي يضع مصالح العراق وشعبه فوق مصالح الساسة وتوجهاتهم العقائدية المتناشزة التي جعلت من البلاد ميدانا لصراعات، فتحت الابواب امام عواصف سياسية واقتصادية وامنية، متعددة الاشكال أتت على كل شيء جميل فيها!.
اضف تعليق