ومما هو خير للإنسان قبل مماته وبعده، أن يترك غرساً أو شجرا يُستظلّ به، ويؤكل منه، وتُدام الحياة به، فما يُنتفع به بعد ممات الإنسان سيبقى يدرّ عليه من الحسنات حتى بعد مماته، فإدامة الشجر سيبقى منتفعا به كما البنيان، كالمساجد والحسينيات، والمؤسسات الخيرية والمدارس...
القطاع الزراعي من القطاعات التي تساهم بشكل أساسي ورئيسي في توفير الأمن الغذائي لأي بلد، وكذلك توفير فرص عمل للكثير من الايدي العاملة وأيضا مواد أولية للصناعات المختلفة.
يعتبر العراق البلد الأشهر بالزراعة عبر التاريخ، حتى وُسِمَتْ أرضه بـ (أرض السواد) لكثرة البساتين والأراضي المزروعة فيه، عانى خلال العقود الأخيرة من تراجع وتردي كبير بالقطاع الزراعي والذي يمثل ثروة عظيمة كان يعتمد عليها قبل التحول نحو الاقتصاد الريعي والاعتماد على ثروة النفط المتذبذبة عالمياً والتي تتأثر بالمشاكل السياسية والصراعات الدولية، ولا تحقق الاستقرار والامن الغذائي للمجتمع، بالإضافة الى التلوث الكبير الذي تتركه على البيئة.
قطاع الزراعة العراقي في العهد الملكي
منذ تأسيس الدولة العراقية ومجيء النظام الملكي لم يتعرض للملكيات الزراعية (النظام الاقطاعي) التي كانت موجودة منذ القرن التاسع عشر ونظمته الدولة العثمانية بإصدار التسجيل العقاري (الطابو)، لسببين اولها اعتماده على نظام الاقتصاد الحر (اقتصاد السوق)، والثاني ايمانه بان العراق بلد زراعي وان الزراعة هي عصب اقتصاده وأن اي تطوير لاقتصاده يجب ان يكون مستندا الى هذه الحقيقة.
وحين حاول النظام الملكي دعم الزراعة وتطويرها وجد نفسه من دون ان يشعر يدعم الاقطاعيين وليس الفلاحين. وقد كان لدعم القطاع الزراعي نتائج باهرة، اذ أصبح العراق خلال العهد الملكي مُصدرا لجميع انواع المحاصيل الزراعية بما فيها الحنطة والشعير، غير ان النظام الاقطاعي كان فيه ظلم كبير سببه يعود الى جشع بعض رؤساء العشائر الذين اخذوا يمتصون دماء الفلاحين ويعتصرون حياتهم للحصول على اعلى الارباح والفوائد.
ظل الناس يتهمون النظام الملكي بمساندة الاقطاع وعدم اتخاذ اجراءات لرفع الظلم والحيف عن كاهل الفلاحين، او تحسين قوانين العمل، لكن النظام لم يفعل شيئا فتحمل بذلك وزر اعمال بعض هؤلاء الاشخاص الجشعين، وربما يُعّد هذا السبب من اهم أسباب تأييد الانقلاب العسكري ضد الملكية من قبل الشعب العراقي وخاصة طبقة الفلاحين.
بعد مجيء الجمهورية عام 1958 بإنقلاب عسكري تحول لاحقاً لثورة شعبية، ولتحقيق مكسب جماهيري، أصدر رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي، حيث كان لتطبيقه ردود فعل في الأوساط السياسية والدينية نتيجة مخالفته الواقع الاقتصادي والشرع واهتمامه بالجانب البيروقراطي على حساب الجانب الفني والعملي، وتركيزه على الحد من نفوذ كبار الملاكين وشيوخ العشائر أكثر من تركيزه على زيادة الإنتاج وتحسينه.
كما أن عدم الاستقرار السياسي داخلياً وخارجياً أدخل العراق في دوامة من المشكلات والأزمات وحروب عبثية، لازال البلد يعاني من تبعاتها وأوزارها.
الشيرازي وقاسم وقانون الإصلاح الزراعي
يذكر المرجع الراحل محمد الحسيني الشيرازي في مذكراته (تلك الأيام)، أن الزعيم قاسم حاول أن يخرج نفسه من المشاكل وتراجع التأييد الشعبي له، فكان يبعث الوفود الى العلماء والوجهاء ليزيل كراهية بعض فئات الشعب ضده، ومن جملة العلماء الذين أرسل قاسم وفده للقائهم المرجع السيد مهدي الشيرازي رحمه الله الذي كان مريضاً في تلك الفترة، فطلب الوفد الذي كان برئاسة عضو مجلس السيادة عبد المجيد كمونه لقاءه محاولا معرفة لماذا غير الناس موقفهم تجاه الحكومة؟ ماذا جرى لكثير من الشعب حتى تحول موقفهم من الحب الى الكره للدولة؟
كان من جملة الأسباب التي اجابهم بها، "أنتم منعتم تنفيذ قانون الناس مسلطون على أموالهم وعلى انفسهم" الذي اعلنه الرسول (ص)، واستبدلتموه بقانون الإصلاح الزراعي، الذي أجاز لكم تقسيم أراضي الملاكين وتوزيعها على الفلاحين، مع ان تلك الأراضي كانت لهم وليس من حقكم اعطاءها للغير، وكان باستطاعتكم إعطاء الأراضي الموات والبائرة للفلاحين وهي كثيرة جدا ليزرعوها، فالمياه متوفرة ولا توجد مشكلة في هذا الجانب.
وقد نتج عن هذه السياسة الخاطئة التي تمت تخريب الزراعة في العراق، ولأن هؤلاء الفلاحين لا يستطيعون إدارة المحصول ولا يعرفون قيمة تلك الأراضي، فكانت الحصيلة تركهم الأرض والهجرة نحو المدن، وتسبب ذلك بمشكلة كبيرة أخرى الا وهي أزمة السكن، اصبح العراق يستورد الحنطة والشعير، بعد ان كان يصدرهما، وكل ذلك مع وفرة المياه وخصوبة التربة وملائمة المناخ ووفرة الايدي العاملة، وأجمع علماء الدين سنة وشيعة على بطلان هذا القانون الذي حول الزراعة من مشروع انتاجي ربحي الى مشروع خاسر يستنزف ميزانية الدولة بدعم الفلاحين، وأسس لمفهوم الاقتصاد الريعي بقوة في الدولة العراقية.
يقول المرجع الراحل محمد الشيرازي إن الله أمر عباده بعمارة الأرض، ومن طرقها الزراعة، فقد أمر سبحانه عبادَهُ بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله معايش للخلق.
وإن من أهم عوامل القضاء على البطالة والفقر والتضخم والأمراض هو عمارة الأرض كما في الحديث الشريف (الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)، شرط أن ان يحيي الأرض ويعمّرها ولا يهملها.
ومما هو خير للإنسان قبل مماته وبعده، أن يترك غرساً أو شجرا يُستظلّ به، ويؤكل منه، وتُدام الحياة به، فما يُنتفع به بعد ممات الإنسان سيبقى يدرّ عليه من الحسنات حتى بعد مماته، فإدامة الشجر سيبقى منتفعا به كما البنيان، كالمساجد والحسينيات، والمؤسسات الخيرية والمدارس والجامعات والحوزات العلمية التي تنفع الناس وتنمي عقولهم وذكائهم وأفكارهم، فمثلما يكون المسجد مكان عبادة وأذكار وتعبّد وطاعات، فإن الزرع يديم بقاء الكائنات، ويجعل الحياة قابلة للاستمرارية، وكلاهما هدفه الإنسانية واستقرارها وتطورها.
اضف تعليق