ان الإصلاح الديمقراطي في العراق سيواجه مخاطرا مركبة: محلية ودولية، قد تهدد في بعض الأحيان شرعية الخيار الديمقراطي في إدارة الدولة، لاسيما أن هذه الشرعية اهتزت كثيرا في السنوات الماضية؛ نتيجة أداء الطبقة السياسية، مما أضعف كثيرا من السلطة الأخلاقية للديمقراطية في عقول وارواح العراقيين...

يعلم الكثير من المختصين والمهتمين بقضايا الاقتصاد والحكم والإدارة ان هناك علاقة وثيقة بين الاقتصاد والسياسة، بل يرجح البعض قيادة الاقتصاد للشأن السياسي (يصدق ذلك على الدول المتقدمة)، فيما يعتقد البعض الآخر بقيادة السياسة للشأن الاقتصادي (كحال جميع البلدان الاوتوقراطية والنامية)، لنخلص من هذه الجدلية الى حقيقة الترابط الكبير بين الاثنين، حتى عدت قوة الدول الاقتصادية رافدا مهما من روافد قوتها الاستراتيجية الشاملة.

ما نريد الانطلاق اليه من هذه المقدمة البديهية هو ان العراق كدولة وتجربة سياسية يمر اليوم بامتحان عسير بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط العالمية؛ نتيجة جائحة كوفيد 19، حتى وصلت إيراداته الشهرية من بيع نفطه لشهر نيسان-ابريل الماضي الى ما يقارب مليار وأربع مائة مليون دولار، أي ربع الايراد المتوقع في الظروف الطبيعية، لدولة تعتمد بنسبة أكثر من 94% في رفد موازنتها العامة على بيع نفطها في الأسواق العالمية، في وقت لم تستعد قيادتها السياسية لمثل هذا الوضع.

هذه التطورات الاقتصادية بدأت تترك تأثيراتها السلبية وتوقعاتها المتشائمة على تصريحات المسؤولين والخبراء العراقيين والدوليين، بل رجحت بعض التقارير احتمال ان يكون العراق واحدا من ثلاث دول في العالم ستنهار نتيجة انكماش الاقتصاد العالمي المتوقع من جائحة فيروس كورونا، وقد رجحت معظم التقارير أن هذا الانكماش سيطول اعتمادا على طول مدة بقاء الجائحة، لكنها في أفضل التنبؤات ستستغرق هذا العام والعام القادم (2020-2021).

وبعيدا عن تكرار الحديث عن تأثيرات ذلك المرعبة على الاقتصاد العراقي، أود التركيز على تأثيراته على مسار الإصلاح الديمقراطي في بلدنا، وهل سينجح هذا المسار في بلوغ أهدافه أم يتعثر وينقطع الأمل فيه؟

ليس جديدا الحديث عن العلاقة بين الديمقراطية والاقتصاد في الدراسات السياسية، ولكنه اليوم بالنسبة للعراق له خصوصية بالغة الأهمية، فالديمقراطية تتأثر بالاقتصاد من خلال اتجاهين:

الاتجاه الأول- يربط بين الديمقراطية، وما سماه لاري دايموند بـ "لعنة النفط"، والتي يرى من خلالها أن الثروة النفطية شكلت لعنة على المسار الديمقراطية في البلدان التي ظهرت فيها؛ لأن الحكومات الاوتوقراطية والاوليغارشية الحاكمة في هذه البلدان استفادت من إيرادات النفط في تقوية أدوات القمع لمواطنيها بتطوير الأجهزة الأمنية والعسكرية وبناء السجون والمعتقلات وتجهيزها بأحدث التقنيات التي تسمح لها بالهيمنة واحتكار الدور السياسي. وهي تفعل ذلك؛ لأنها اكتفت بموارد النفط مما سمح لها بالاستغناء عن الحاجة الى شعبها من خلال الرسوم والضرائب وغيرها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، تجد أن الطبقات الوسطى في البلدان النفطية فقدت استقلاليتها، وأصبحت تابعة للحكومات، بل هي مجرد مجموعات زبائنية عند الحكام، أكثر منها مواطنين حقيقيين، يمتلكون القدرة على المبادرة والتأثير في الشأن العام.

لقد ترافق ذلك مع تنامي مذهل في مستويات الفساد وتوظيف أموال النفط في شراء الذمم واسكات المعارضين، وهذه الحالة نجدها شاخصة في أمثلة عديدة: كالعراق، وأمارات الخليج، ونيجيريا، وفنزويلا، وإيران... وغيرها من البلدان النفطية. وعليه لا يمكن توقع الدفع نحو الامام باتجاه الديمقراطية في البلدان النفطية بشكل فاعل، طالما بقيت الإيرادات النفطية تصب في جيوب الحكومات بمعدلات عالية، تكفي خزينة الدولة.

الاتجاه الآخر- يربط الديمقراطية بالتنمية، ويجد أنصار هذا الاتجاه ان نجاح التنمية في أي بلد من البلدان يتناسب طرديا مع نجاح المسار الديمقراطي، حتى أنهم قدموا مثالا على ذلك هو: ان استمرار تقدم التنمية في الصين وسنغافورة، سوف يجعل نظامي الحكم في هذين البلدين أكثر اقتناعا بقبول الإصلاح الديمقراطي خلال عشرين سنة بالنسبة للصين، وخلال عشر سنوات بالنسبة لسنغافورة، وعلى هذا المنوال سيكون مستقبل بقية الدول الناجحة في استراتيجيتها التنموية.

وهذا يعني ان حظ الدول الفقيرة سيكون عاثرا للغاية مع الديمقراطية، فكلما تصاعدت مستويات الفقر، تصاعدت الحاجات المادية للشعب (الأمن، الغذاء، السكن، الزواج)، وانخفض الطلب على الحاجات غير المادية (اثبات الذات، البيئة، التعليم...)، لذا من غير المتوقع ان تتجه الدول الفاشلة تنمويا نحو الديمقراطية في مستقبلها القريب، ويُضرب المثل على هذا الاتجاه بكثير من الدول الفقيرة في أفريقيا وأسيا وأميركا اللاتينية.

إذا ربطنا هذين الاتجاهين ببعضهما، مع وجود الكثير من البراهين الدالة على دقتهما وصحة الأسس المستندين اليها، ثم أسقطنا ذلك على الوضع العراقي الحاضر، ربما سيشعر بالاسترخاء والسعادة كثير من دعاة الإصلاح الديمقراطي عندنا؛ لاعتقادهم ان انخفاض أسعار النفط، يعني حرمان الطبقة الاوليغارشية الحاكمة من إيرادات ضخمة سمحت لها بالتلاعب بالذمم، وقهر المعارضين واحتوائهم، واحتواء الطبقات الوسطى التي أصبحت مجرد جيش حكومي مدني تابع للسلطة، وبإعداد وصلت الى أكثر من سبعة ملايين موظف ومتقاعد، فضلا عن تمويل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتوزيع المغانم بين الفرقاء السياسيين، فيما يسميه العراقيون تقاسم كعكة السلطة، واسكات الشارع الشعبي بشكل أو آخر...

وهذا سوف يقودنا الى تصور مهم هو: ان فقدان موارد النفط، وفراغ موازنة الدولة سيربك حسابات السلطة، ويدفعها شاءت أم أبت الى رفع او التشديد بقضية الضرائب والرسوم على الشعب، مع العجز عن تلبية مطالبهم او توفير الحد الأدنى منها على الأقل. وامام هكذا سيناريو سيتصاعد الحراك الشعب الغاضب، والناقم على سنوات طويلة من الفشل باتجاه تغيير الطبقة الحاكمة، والمجيئ بطبقة جديدة، كما حصل في دول كثيرة من العالم، عاشت اوضاعا مماثلة، وهذا قد يسهم بتصحيح وتطوير مسارنا الديمقراطي.

ولكن لا تبدو الصورة بهذا التفاؤل، على الأقل في المدى القريب، على الرغم من وجاهة مزاعم دعاة الديمقراطية لدينا ومبرراتهم؛ لأن الديمقراطية في العراق، ستصدم بالوجه الثاني من علاقتها بالاقتصاد، الا وهو التنمية، فالعراق بلد يصنف بافتقاره الى استراتيجية شاملة وواضحة وفاعلة للتنمية الاقتصادية، وشهد في العقود الستة الأخيرة فشلا منقطع النظير في هذا المجال، وقد استفحل الحال في العقدين الأخيرين بشكل كارثي، تدل على ذلك معدلات الفقر الكبيرة التي تجعل اكثر من ربع السكان يعيشون حول خط الفقر، فيما نسب البطالة عالية، والتدهور مرعب في البنى التحتية الأساسية المرتبطة بالخدمات الأولية والضرورية للمواطن، ويترافق مع هذه النسب سوء في السياسة التعليمية والتربوية، وارتفاع متوالي في العنف الاجتماعي والسياسي (الفردي والجمعي).

وإذا صدقت مقولة ان هناك تناسبا طرديا بين التنمية والديمقراطية، فهذا سيعني ان انعدام تنمية حقيقية في العراق، سيقود الى انعدام او انتكاس الإصلاح الديمقراطي في تجربته السياسية. قطعا ستكون هذه الصراحة مؤلمة لدعاة الديمقراطية وبناء الدولة المدنية، كما هي مؤلمة لكاتب هذه السطور، ولكن لا زال في الجعبة المزيد، فمأساة الديمقراطية لدينا لن تتوقف عند هذا الحد؟

صدمة كوفيد 19 واحتمال أفول الحلم الديمقراطي في العالم

يقال إنك لا تدرك الابعاد الكاملة لتأثيرات الاحداث الكبرى وهي لا زالت تجري على الأرض، بل لابد من انقضائها تماما؛ لامتلاك صورة كاملة من الادراك الفعلي لحجم ونوع هذه التأثيرات. هذه المقولة تصدق –أيضا- مع حجم الاضرار التي سيتكبدها او من المتوقع ان يعاني منها العالم بعد زوال جائحة فيروس كورونا، ولكن الكثير من التنبؤات تشير الى ان عالم ما بعد كورونا سيتغير بشكل كبير، ومن التأثيرات المتوقعة (لا اريد ان اشغل القارئ هنا بالنصوص) هي تلك التي ستصيب الخيار الديمقراطي في العالم، اذ يعتقد الكثير من الخبراء ان الاندفاع نحو العولمة سيتراجع بشدة، مع ما تحمله العولمة من تبشير بالاقتصادات المعولمة، والحدود المفتوحة، والتعددية السياسية، واللامركزية الإدارية... وسيدخل العالم في مرحلة من الانكفاء الوطني داخل الحدود الوطنية للدول، وزيادة التوجه المركزي في الحكم، مع تقييد الانفتاح على الآخر في ميادين: الهجرة، والعمالة، والسياحة وغيرها...وهذا يعني أفول او انحسار الخيار الديمقراطي بشكل ام آخر، لمصلحة العصبية الوطنية والقومية والحكم الشمولي.

يضاف الى هذه التوقعات، ان أسوء الاضرار ستتكبدها الدول النامية؛ لضعف بنيتها السياسية والاقتصادية، فيما يترافق ذلك مع تصاعد في الصراع الدولي (في حال فشل سيناريو التضامن الدولي)؛ نتيجة انعدام القيادة المشتركة للعالم، لندخل الى مرحلة جديدة من اندلاع الحروب الدولية والأهلية، وتنامي موجات العنف والتطرف عبر العالم.

وفي ظل هذه التوقعات المتشائمة لن تحصل الديمقراطية على داعمين دوليين أقوياء او أنصار فاعلين وطنيا ودوليا، فالخوف العالمي سيدفع الشعوب الى البحث عن القبضات القوية في إدارة الحكم وتسيير الشؤون العامة، وتلبية حاجات الناس، أكثر من البحث عن ديمقراطيين بطيئين في اتخاذ القرارات الحازمة، وفاشلين في بناء المؤسسات الحكومية الفاعلة، وحماية التماسك الاجتماعي.

وعلى الرغم من عدم التأييد الكامل لهذه التنبؤات فيما يتعلق بالديمقراطية؛ لأننا نرى المشروع الديمقراطي يمثل جوهر النزوع الإنساني نحو الحرية، على مستوى الادراك والإرادة، وهو جزء لا يتجزأ من حلم الانسان المشروع في بناء عالم أفضل على مستوى نمط الحياة والحكم والإدارة، والاحلام الكبيرة لا تجهض بسهولة، بل ان تاريخ الديمقراطية يشير الى أنها مرت بكثير من المراحل الصعبة الا أنها بقيت مستمرة في مسيرتها التصاعدية، فيما زالت المخاطر والتهديدات التي استهدفت وجودها. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار، في أن المرحلة القادمة (ما بعد كوفيد 19) ستكون صعبة امام الخيار الديمقراطي.

هذا يعني ان الإصلاح الديمقراطي في العراق سيواجه مخاطرا مركبة: محلية ودولية، قد تهدد في بعض الأحيان شرعية الخيار الديمقراطي في إدارة الدولة، لاسيما أن هذه الشرعية اهتزت كثيرا في السنوات الماضية؛ نتيجة أداء الطبقة السياسية، مما أضعف كثيرا من السلطة الأخلاقية للديمقراطية في عقول وارواح العراقيين، وقد يدخل العراق -كما بعض دول العالم- في موجة من العنف والتطرف الفكري تدفع الى مزيد من الانقسام المجتمعي، المرجح لخيارات القوة والاكراه على خيارات التعايش والاحترام المتبادل، مما يسمح ببروز قيادات شمولية جديدة تقود الدولة، ليس بالضرورة ان تكون قيادات عسكرية، بل ربما قيادات مدنية تؤمن بالحكم الاوتوقراطي.

هذا السيناريو لا يمكن اغفاله عن العارفين، كما من المهم جدا الحيلولة دون حصوله؛ لما له من نتائج سلبية للغاية قد لا تبدو واضحة في البداية، لكنها ستكون جلية قاتمة بعد ذلك. وإزاء ذلك سنحتاج الى تعزيز الايمان بعدم وجود بديل ناجع للخيار الديمقراطي في حكم العراق، وتعزيز هذا الايمان لن تقوم به الطبقة السياسية الاوليغارشية الحالية التي كانت، ولا زالت، سببا رئيسا في اهتزاز السلطة الأخلاقية للديمقراطية، وانتكاس مشروعها، بل من الضروري أن تقوم بهذا الدور منظمات المجتمع المدني العراقي على اختلاف تقسيماتها وتوجهاتها، والمؤسسات الثقافية ذات التماس المباشر بالرأي العام، ومؤسسات التربية والتعليم ونخبها الفاعلة.

كذلك من الضروري إدراك أصحاب المصالح: التجار وارباب العمل، والمرجعيات الدينية، والقوى السياسية ذات التوجه الديمقراطي أن مصالحهم، في الأمد القريب والبعيد، تواجه تهديدا حقيقيا، سواء تحول نظام الحكم في العراق الى شكل جديد من أشكال الحكم الاوتوقراطي، أو دخل الى طور جديد من اطوار الفوضى والتطرف والعنف. وأن السبيل الأفضل لحماية هذه المصالح الخاصة، فضلا على المصالح العامة للعراقيين، لا يكون الا بوضع حد للوضع الحالي الذي تسود فيه العبثية والفساد والإدارة الهزيلة لمؤسسات الدولة، وإعادة تشكيل العلاقة بين الحكام والمحكومين على أسس أفضل تعزز الثقة بين الطرفين.

ان المرحلة القادمة ستكون حاسمة بالنسبة للإصلاح الديمقراطي وتصحيح مسار الحكم في العراق، وهي تتطلب تحالف فاعل وتعاون جدي بين جميع القوى التقليدية والمدنية الراغبة بالحفاظ على مصالحها العامة والخاصة، فجميع المؤشرات المحلية والدولية لا تسير لمصلحة ترسيخ الديمقراطية، لكن ما يجب ان يثق فيه الجميع ان انهيار الديمقراطية لن يكون خبرا سعيدا، بل سيكون نذير شؤم يعيد استحضار تجارب الظلم والاستعباد والصراع المميت التي حفل بها تاريخ بلدنا.

* الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2020
www.fcdrs.com

اضف تعليق