إذا مرّت حكومة الكاظمي بشروط ثقيلة فسيكون فشلها محتملاً، بل أنها ستعيد إنتاج حكومة عادل عبد المهدي، الذي هناك من يعتبره الأنسب ويريد التمديد له لإجراء انتخابات مبكرة، أما إذا لم تمرّ الحكومة المرتقبة فسنعود إلى مسرح رئيس الجمهورية الذي يمكنه حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكّرة...
شدّد رئيس الوزراء المكلّف مصطفى الكاظمي على أن مهمته هي إبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية، جاء ذلك جواباً على سؤال وجهّه له أحد الإعلاميين في لقاء محدود بُعيد تكليفه بمهمته الجديدة، بعد أن قضى في رئاسة المخابرات نحو أربع سنوات، علماً بأن الموضوع يتعلّق بالموقف الملتبس والمعقّد والمتناقض بين الفرقاء السياسيين في إطار نظام المحاصصة الطائفي – الإثني، إزاء الوجود العسكري الأمريكي بشكل خاص والأجنبي بشكل عام في العراق، خصوصاً على خلفية تصاعد الصراع الإيراني – الأمريكي وامتداداته عربياً وإقليمياً.
وأضاف الكاظمي: سيكون لدينا حوار جاد مع واشنطن بشأن وجودها (المقصود القوات الأمريكية في العراق)، والأهم هو ما يجب التعامل به بحزم بحيث لا يكون العراق " ساحة لتصفية الحسابات" مؤكداً رغبته في الانفتاح بشكل جاد على المحيطين العربي والإسلامي وطبقاً لمبدأ " المصالح المشتركة" كما جاء على لسانه.
وبدا الكاظمي وهو يعرض برنامجاً أولياً لحكومته المرتقبة واثقاً مؤكداً أن "أسماء أعضاء الكابينة الوزارية أصبحت جاهزة الآن وأنا بصدد التفاوض مع الكتل السياسية بشأن ذلك من أجل تمريرها داخل قبّة البرلمان بأسرع وقت حتى أتمكّن من بدء العمل طبقاً للأولويات الضاغطة". وكان سلفاه عدنان الزرفي وقبله محمد توفيق علّاوي قد اعتذرا عن استكمال مهمة التكليف لأسباب تتعلّق بمعارضة القوى المتنفّذة من الشيعية السياسية بزعم عدم ترشيحهما من قبلها، بل كان ذلك خيار رئيس الجمهورية، لاسيّما حين اختلفت على المرشح المقبول، علماً بأن علاوي كان قد ترشح من جانب بعض الكتل الشيعية، لكن معارضة شديدة لقيها من أخرى، عشية التكليف وبُعيده.
وكان عادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق قد اضطرّ إلى تقديم استقالته على خلفية حركة الاحتجاج الواسعة التي اندلعت في الفاتح من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وسقط أثرها مئات القتلى وعشرات آلاف من الجرحى.
فما الذي ينتظر الكاظمي؟
سنحاول عرض الصورة قبل الحديث عن التحديات التي ستواجهه، فعلى الرغم من تأييد الكتل الشيعية (المؤتلفة والمختلفة) لترشيحه مع الاعتذار للروائي كازنتزاكي في روايته "الأخوة الأعداء"، فثمة مجاميع مسلّحة ظلّت تغرّد خارج "البيت الشيعي" مثلما هي مجموعة " كتائب حزب الله" – العراق، وجماعة "سيّد الشهداء" وغيرهما من المجاميع التي يطلق عليها " الولائية" لدعمها لمبدأ "ولاية الفقيه" والشديدة الصلة بإيران، وقد أصدرت بيانات عارضت ترشيحه، علماً بأنها ظلّت تدعو لإجلاء جميع القوات الأجنبية من العراق، واستطاعت مع الشيعية السياسية الأخرى، استصدار قرار من البرلمان يقضي بإلزامها بالخروج من العراق (5 يناير/كانون الثاني 2020) على خلفية استهداف الولايات المتحدة لموكب قاسم سليماني مسؤول الحرس الثوري الإيراني وأبو مهدي المهندس أحد أبرز القيادات العسكرية والأمنية في الحشد الشعبي عند مطار بغداد الدولي (3 يناير/كانون الثاني 2020).
جدير بالذكر، إن زيادة حدّة التوتر بين إيران والولايات المتحدة انعكست على الشيعية السياسية في العراق وهيئة الحشد الشعبي، وكانت الأخيرة قد قامت خلال نصف السنة الأخير من العام الماضي بقصف متكرر لمواقع أمريكية بما فيها معسكر التاجي ومقر السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، ولعلّ ذلك ما دعا واشنطن إلى إعادة انتشار قواتها، مُخلية عدداً من القواعد العسكرية للقوات العراقية، مبرّرة ذلك بتفشي "وباء كورونا"، ولكن الملاحظ هو خشيتها من هجومات محتملة من جانب الجماعات المسلحة، وتمركزت القوات الأمريكية في قاعدتين أساسيتين هما: قاعدة عين الأسد، غربي بغداد في محافظة الأنبار، وقاعدة حرير في محافظة أربيل (كردستان العراق).
وعلى الرغم من إصدار البرلمان العراقي قراراً بإجلاء جميع القوات الأجنبية، إلّا أن هذا القرار ظل عائماً، حيث لم يحصل على تأييد " السنّية -السياسية" المشاركة في السلطة، بل أنها قاطعت جلسة البرلمان الذي اتخذ القرار، كما لم توافق عليه كتلة "التحالف الكردستاني" واعتبرت كأن الأمر لا يعنيها. ويدرك الجميع ضمن العملية السياسية القائمة إن أي قرار سيبقى في الأدراج، ما لم يتوافر التوافق المطلوب من جانب المجموعات الرئيسية المشاركة في السلطة وفي نظام التقاسم الوظيفي القائم على الزبائنية السياسية المؤسسة على الغنائمية.
إن أولى التحديات التي ستواجه الكاظمي هي المحافظة على نوع من التوازن بين القوى المشاركة وعدم إحداث شرخ بينها، لأن ذلك سيؤدي إلى اختلالات في المسار العام، وفقاً لما حدّده الدستور الذي يتعكّز عليه الجميع، وإن كانوا يتناسوه حين يريدون.
أما التحدي الثاني فهو يتعلق بالتداخل والازدواجية بين أجهزة الدولة، ولاسيّما العسكرية والأمنية وبين هيئة الحشد الشعبي التابعة رسمياً لها والمرتبطة بالقائد العام للقوات المسلّحة الذي هو رئيس الوزراء، حيث أن بعض القوى المرتبطة بالحشد والمحتمية بمظلته تأخذ تعليماتها من خارجه، علماً بأنه يخضع إدارياً ومالياً للقوات المسلّحة العراقية، وقد برز مثل هذا التناقض والتداخل على المستويين الرسمي وغير الرسمي خلال التظاهرة الكبيرة التي شاركت فيها قيادات من الحشد الشعبي، أمام السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، حيث جرت محاولات لاقتحامها كما تم حرق بعض مداخلها، ممّا سبب حرجاً كبيراً للحكومة العراقية ورئيسها المستقيل عادل عبد المهدي.
وسيكون التحدي الثالث، هو حصص الفرقاء من الوزارات والمواقع العليا، على الرغم من أن غالبية الكتل أعلنت إطلاق يد رئيس الوزراء المكلّف بتشكيل الوزارة، لكن ذلك مجرد كلام للاستهلاك حيث بدأت الاشتراطات تترشح على السطح.
أما التحدي الرابع، فإنه يتعلق بمحاسبة الفاسدين ومحاربة الفساد، وعلى الرغم من أن الحكومة انتقالية ومهمتها الأساسية التحضير لإجراء انتخابات مبكّرة لكن مسألة الفساد مركزية ولا يمكن التقدم بمسيرة البلاد وتجاوز الأزمة المستفحلة منذ الاحتلال الأمريكي العام 2003 إلى اليوم دون محاربة الفساد، أو على أقل تقدير البدء بخريطة طريق والمباشرة فيها تأكيداً لجدّية الحكومة.
وينصبّ التحدّي الخامس على محاسبة المسؤولين عن الارتكابات وأعمال القتل والاختفاء القسري والتعذيب الذي طال عشرات آلاف المتظاهرين، إذْ أن بقاء الجناة خارج دائرة العدالة والقضاء يعني استمرار الأوضاع على ما كانت عليه، علماً بأن مطالب المتظاهرين باعتراف الجميع عادلة ومشروعة وتتعلّق بالخدمات الصحية والتعليمية والبلدية وفرص العمل وعدم التمييز، فضلاً عن مطالبات تتعلق بإلغاء نظام المحاصصة وتعديلات تطال الدستور وقانون انتخابي عادل وانتخابات حرّة ونزيهة، ولعلّ ذلك سيكون التحدي السادس، فمتى سيُحدّد الموعد الجديد للانتخابات وكيف سيكون رد فعل القوى السياسية المشاركة بالسلطة؟
في مثل هذه الأجواء الضبابية والغائمة جاء اختيار رئيس الجمهورية برهم صالح لمصطفى الكاظمي، بالتوافق مع كتل الشيعية السياسية الرئيسية، فهل سيتمكن الكاظمي المضي بمهمته بنجاح متجاوزاً الاختلالات التي رافقت اختيار من سبقوه (عبد المهدي ، الزرفي، علّاوي) خصوصاً وأنه سبق وأن صرّح أنه لا يوافق على التكليف ما لم يأتِ برضا ودعم " البيت الشيعي"، وهو ما حصل بالفعل وبدعم من السنّية السياسية والتحالف الكردستاني في مشهد غير مسبوق أداره رئيس الجمهورية بجدارة. فما الذي سيحصل وأين سيرسو المركب؟
ثم ماذا تريد الكتل السياسية بعد منحه التكليف؟ وكيف سيتعامل مع مطالبها؟ وما هي القضايا الراهنة التي سيواجهها؟ وإذا كنّا تناولنا أهم التحديات، فثمة أولويات ضاغطة أولها- الأزمة الصحية المتفاقمة بسبب وباء كورونا وما تشكّله من تهديد حقيقي. وثانيها - الأزمة الاقتصادية المتمثلة بانخفاض أسعار النفط، الأمر الذي يتطلّب طائفة من الإجراءات الحازمة والسريعة لتفادي انهيار اقتصادي حقيقي.
وثالثها- الضغوط السياسية الشيعية والسنية والكردية لتحقيق مطالبها لكي تمرّ الحكومة وتحظى بتصويت البرلمان عليها. ورابعها- كيف سيتعاطى مع مطالب حركة الاحتجاج التي يمكن أن تتجدد وحتى تستمر في رفضها للمرشح الجديد، علماً بأنه لم يأتِ على ذكرها إلّا على نحو عابر، ولكنه دعا إلى فتح "حوار وطني حقيقي داخلي" على جميع الأصعدة يمكن أن " يؤسس لرؤية وطنية نستطيع خلالها بناء مؤسسات الدولة بناء سليماً... ولا خيار أمامنا سوى المشروع الوطني العراقي الشامل والعابر للهويّات الفرعية، سواء العرقية أو المذهبية".
وخامسها- حصر السلاح بيد الدولة، وكما قال الكاظمي سلاح الأفراد أو العشائر أو الفصائل المسلحة، علماً بأن هذه الأخيرة، لاسيّما التي هي خارج الحشد تعتبر ذلك مرتبطاً بالوجود العسكري الأجنبي، فهل سيتمكن من القيام بخطوات عملية؟ وما هي أدواته في ذلك، إذا كان جزءًا كبيراً من القوات المسلحة والحشد الشعبي لديه مرجعيات سياسية مغايرة له؟
ومع أنه من المرجّح أن تمرّ حكومة الكاظمي بصعوبة، لكن هذه العقبات والتحديات لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار، لاسيّما تناقضات واشتراطات " الأخوة الأعداء" الذين يريد كل منهم تلبية مطالبه حتى وإن كانت على حساب الآخر، ولا أستبعد أن تحدث مفاجآت بسبب هشاشة الوضع السياسي والتناقضات الحادة وتصدّع عوامل الثقة بين أطرافه، إضافة إلى تدخلات وحضور القوى الخارجية الدولية والإقليمية ومصالحها المتعارضة في العراق، وهي وإنْ تبدو أحياناً في حالة " توافق" أو "تساكن" أو "تخادم"، لكن ثمة الكثير من النار تحت الرماد كما يقال.
وإذا مرّت حكومة الكاظمي بشروط ثقيلة فسيكون فشلها محتملاً، بل أنها ستعيد إنتاج حكومة عادل عبد المهدي، الذي هناك من يعتبره الأنسب ويريد التمديد له لإجراء انتخابات مبكرة، أما إذا لم تمرّ الحكومة المرتقبة فسنعود إلى مسرح رئيس الجمهورية الذي يمكنه حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكّرة والعودة إلى المربع صفر، لكن واشنطن وطهران إذا بدأتا بالخطة "أ" و"ب" واليوم بالخطة "ث" فإن لديهما أكثر من خطة حتى وإن وصل العراق إلى اللحظة الحرجة.
اضف تعليق