ينبغي أن ننتقل في رصد وعلاج الظواهر الاجتماعية السيئة من موقع الواعظ والناصح فقط إلى موقع الباحث العلمي الذي يتجه إلى جذور الأمور وجوهر القضايا، دون أن نغفل تداعياتها وآثارها الجانبية. لا يعني أن نتعامل مع الكيان الاجتماعي كما نتعامل مع العلوم الطبيعية والرياضية القائمة...
يجتهد المختصون بالشأن الاجتماعي سواء كانوا علماء اجتماع أو وعاظا ومرشدين ومصلحين اجتماعيين في رصد الظواهر الاجتماعية في حركة المجتمع وتحديد الموقف المطلوب منها.
فإذا كانت هذه الظاهرة إيجابية وحسنة امتدحها المصلح أو الواعظ وشجع على بقائها وديمومتها في الوسط الاجتماعي، وإذا كانت سلبية وسيئة ذمها واعتبرها اختراقا اجتماعيا وأخلاقيا خطيرا من قبل العدو، وعرض في ذات الوقت القيمة المقابلة لتلك الظاهرة السيئة بكلياتها وخطوطها الكبرى، واعتبرها هي الحل والعلاج لتلك الظاهرة السيئة.
فإذا كانت الظاهرة مثلا (ازدياد معدل البخل) في المجتمع فإن الواعظ يقوم بذم هذه الخصلة والمنتسب إليها ومدح الخصلة المقابلة (الكرم) والمنتسب إليها. معتبرا أن علاج ظاهرة البخل في الوسط الاجتماعي هو الالتزام بقيمة الكرم فحسب. وكأنها عملية حسابية ليست خاضعة لظروف اقتصادية ومتغيرات اجتماعية وأنساق ثقافية وفكرية. ولأن التراكم المعرفي والتواصل البحثي تقليد لا نعرفه في أبحاثنا ونشاطاتنا الاجتماعية، لذلك فإننا لا نهتم كثيرا في فهم وإدراك الظواهر الاجتماعية اعتمادا على البحوث العلمية والتحليلية القائمة على الحقائق والبراهين والأرقام. وإنما نكتفي بلغة الوعظ والإرشاد والنصيحة في معالجة الظواهر الاجتماعية.
وكأن النسق الوعظي والأخلاقي هو العامل الأوحد لعلاج كل مشكلات المجتمع وظواهره المتعددة. غافلين في ذلك عن طبيعة نشوء الظواهر في المجتمع. حيث أنه لا توجد ظاهرة اجتماعية – إنسانية وليدة شيء وظرف واحد فقط. فكل ظاهرة اجتماعية هي وليدة شبكة من العوامل والأمور والقضايا، وما تلك الظاهرة إلا إفراز طبيعي لتلك الشبكة من العوامل والظروف.
فالرشوة مثلا كظاهرة اجتماعية ليست وليدة الانحراف الخلقي فحسب أو الجشع المادي فقط، بل هي ظاهرة يشترك في صنعها الكثير من الأنساق والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
فلا يمكن أن نعالج ظاهرة اجتماعية جاءت إفرازا لمشكل اجتماعي–حضاري عميق بالنصيحة الأخلاقية والإرشاد المجرد (دون أن ننكر دور وأهمية هذه الآلية في علاج هذه المشكلات).
والذي نريد قوله في هذا المجال: إننا ينبغي أن ننتقل في رصد وعلاج الظواهر الاجتماعية السيئة من موقع الواعظ والناصح فقط إلى موقع الباحث العلمي الذي يتجه إلى جذور الأمور وجوهر القضايا، دون أن نغفل تداعياتها وآثارها الجانبية.
وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن نتعامل مع الكيان الاجتماعي كما نتعامل مع العلوم الطبيعية والرياضية القائمة على الحتمية والاطراد والعمومية وغيرها من سمات العلوم الطبيعية. وإنما نحن نرى أن المنهجية والبحث العلمي الرصين مسألة ضرورية في العلوم الاجتماعية. وبالذات في دائرة (المشكلات الاجتماعية). إذ أنه لا يمكننا أن نعتمد في رصدنا وعلاجنا للمشكلات الاجتماعية على الحدس والتخمين والاحتمال. صحيح أن العلوم الاجتماعية لا ترقى في علميتها وانضباطها ومنهجيتها إلى مستوى علوم الطبيعة، ولكنها ينبغي ألا تتخلى عن الدقة والضبط العلمي في دراسة الظواهر الإنسانية. وفي تقديرنا أن الاعتماد على النسق الوعظي في علاج الظواهر الاجتماعية السيئة ليس وليد النقص العلمي أو غياب الاهتمام العلمي لدى من يقوم بهذا النسق في حركته الاجتماعية، بل يرجع إلى الاختيار المنهجي في اعتماد أسلوب الوعظ في العملية الاجتماعية.
من هنا فإننا نرى أن عدم اعتمادنا على البحوث العلمية في رصد وعلاج مشكلاتنا الاجتماعية باعتبارها مشكلة منهجية وليست معرفية بالدرجة الأولى. وبإمكاننا أن نزيح هذه المشكلة المنهجية في دراسة قضايانا الاجتماعية عن طريق التوضيح التالي:
إن من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها الكثير من المهتمين بالشأن الاجتماعي العام، أنهم يعزلون الظاهرة التي يدرسونها عن السياق الاجتماعي والظروف التاريخية التي برزت فيها تلك الظاهرة ونشطت فيها. وقد حاول (دور كهايم) في كتابه (تقسيم العمل الاجتماعي) 1893م أن يدرس الظواهر الاجتماعية الموجودة في عصره فوصل إلى نتيجة مفادها: أن تقسيم العمل المفرط الذي يسير نحو التعقيد المتزايد ربما يقود في ظروف مجتمعية خاصة، إلى أن يفقد العمال مثلا معنى علاقاتهم بالآخرين ويقود هذا إلى انحطاط وتدهور العلاقات الاجتماعية. وقد وصف (دور كهايم) هذه الحالة بالأنومية والمجتمع الأنومي، وهو مصطلح استخدمه دوركهايم ليصف حالة مجتمعية حزينة يرثى لها. فهو مجتمع مفكك العلاقة لا تتناسب فيه مصالح الأفراد ويفتقد ضبط أجزائه وربطها معا في كلٍ متماسك.
فلا يمكن أن ننظر إلى مشكلة جنوح الأحداث مثلا بوصفها قضية أخلاقية محضة، دون النظر إليها في إطار سياقها الاجتماعي والتاريخي، وعلاقة الأحداث بالجماعات الصغيرة كالأسرة والجوار والأصدقاء وما أشبه.
إننا ينبغي أن نحلل هذه الظواهر تحليلا سوسيولوجيا، بحيث ننظر إلى الظاهرة الاجتماعية ككائن حي ينمو ويزدهر بفعل مجموعة من العوامل الحاضنة والمحيطة. وكما يبدو أن النسق الوعظي لا ينظر إلى الظواهر الاجتماعية نظرة سوسيولوجية، بل باعتبارها مشكلات أخلاقية تعالج بتذكير الإنسان بالفضائل الأخلاقية المقابلة لتلك الرذيلة، دون أن يتعب نفسه (الواعظ) في البحث والتنقيب عن العوامل والأحداث الحقيقية والخفية لبروز تلك الظاهرة المدروسة.
ويضرب الدكتور محمد عزت حجازي مثالا على هذه المسألة بالتنشئة الاجتماعية فيقول: إن عشرات وربما مئات الدراسات والبحوث حول موضوع مثل التنشئة الاجتماعية في مرحلتي الطفولة والشباب، وفرت كما هائلا من المعلومات عن نقاط تفصيلية كثيرة، ولكنها لم تفلح في الإجابة عن أسئلة مهمة مثل، هل تسير عمليات التنشئة الاجتماعية بحيث تخلق مواطنا يفهم ذاته ويقبلها ويفهم الآخرين ويمكنه أن يقيم علاقات مشبعة معهم، ويفهم الواقع ويستطيع أن يكون إيجابيا إزاءه؟ وهل تسمح التنشئة الاجتماعية للإنسان بأن يحقق إمكاناته وملكاته واستعداداته لأكبر مدى ممكن، بحيث لا تأتي الأجيال المختلفة تشبه بعضها بعضا. وإذا المجتمع يكرر نفسه وإذا لم تكن تفعل ذلك، فماذا من أوضاع وظروف في البنية الاجتماعية - مثلا – يحول دون بلوغه؟ وأية قيم أخلاقية وجمالية واجتماعية وغيرها ترسخها عمليات التنشئة الرسمية وغير الرسمية؟ وفي أي اتجاه تسير هذه.
إننا لا ننكر دور الوعظ في حفز الجانب الأخلاقي والوجداني لدى الإنسان، إلا أن هذا الجانب وحده لا يستطيع أن يعالج الظواهر الاجتماعية ذات المنابت المتعددة. وبكلمة، أن الأخطاء الإنسانية التي لم تتحول إلى ظاهرة يكون للوعظ والنصيحة الأخلاقية الدور الفعال في إنهائها. أما إذا تحولت هذه الأخطاء إلى ظواهر، فإن العاطفة وحدها لا تنهي تلك الظاهرة. فالإنسان لا يستبطن فقط الجوانب الأخلاقية، بل معها نوازع وحوافز شتى تؤثر على مسيرة الإنسان وقناعاته الفكرية ومواقفه السلوكية.
إننا أمام الظواهر الاجتماعية، من الضروري أن ننأى عن التفاسير الظاهرية التي تعيد هذه الظواهر إلى أسبابها الشكلية وعواملها الفوقية، دون سبر أغوار الظاهرة والتعرف على جوهر الأسباب والعوامل الموجدة لها. كما إننا ينبغي أن لا نكتفي بتحديد المسببات الكلية لهذه الظواهر. فالواقع المجرد أو الحضارة بشكل عام، أسباب للكثير من الظواهر ولكنها أسباب كلية. ومن الخطأ الاعتماد والاستناد فقط على العوامل الكلية في اكتشاف الظواهر الاجتماعية السيئة وسبل علاجها.
أسوق هذا الكلام بمناسبة التكرار الممل للكثير من الوعاظ والخطباء الذين يدرسون ظواهر المجتمع المختلفة. فالمشكلة في نظرهم واحدة، كما أن علاجها واضح ومعروف. دون أن يبذل الكثير من هؤلاء الجهد العلمي والمنهجي الكافي لدراسة هذه الظواهر وتحليلها تحليلا عميقا، ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة لها.
فمجتمعنا ليس مجتمعا ملائكيا، وفيه ما في كل المجتمعات الإنسانية من مشاكل وظواهر مرضية. ومن الخطأ التعامل مع هذه الظواهر بوصفها انحرافات أخلاقية أو سلوكية فحسب، دون البحث في أسبابها العميقة، وتفسيرها التفسير العلمي الذي يربطها بسياق حركة المجتمع وظروفه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ونحن هنا لا نجلد ذواتنا، أو نتهم مجتمعنا باتهامات باطلة. وإنما نقول: أن مشاكل الأفراد تختلف في طبيعتها وتمظهراتها الخارجية عن مشاكل المجتمعات. والموعظة الأخلاقية بوحدها لا تعالج مشاكل المجتمع. وإنما نحتاج إلى فهم هذه الظواهر فهما علميا عميقا، ومن ثم التفكير الجدي في آليات المعالجة السليمة لهذه الظواهر.
إننا بحاجة أن نجعل الظواهر في سياقها الاجتماعي الطبيعي، ونبحث في هذا السياق والظروف عن أسبابها وطرق تجاوزها. والسياق الاجتماعي الذي نقصده، ليس كيانا راكدا وسكونيا، بل هو سياق تعتمل فيه عوامل الصراع وأسباب المدافعة والحراك الاجتماعي.
فالأمر الضروري الذي ينبغي أن نسعى إليه، هو الفهم الموضوعي للظاهرة القائم على البحث العلمي والتحليل الاجتماعي المتماسك، مستعينين في إطار ذلك بالأخلاق ودورها الاجتماعي الإصلاحي.
إننا مطالبون اليوم أمام الظواهر الاجتماعية المختلفة التي نسمع عنها أو نقرأ بعض تجلياتها في الصحف وأحداث المناطق، أن نرصدها ونقرأها اعتمادا على منهجية علمية وأساليب ملائمة لتفكيك هذه الظواهر وسبر أغوارها واكتشاف آلياتها وطرق عملها وأسباب نموها وعوامل ضمورها ومنهجية علاجها وتجاوز آثارها المتنوعة.
فلا يكفينا اليوم أن نذم هذه الظواهر، أو نبدي قلقنا الأخلاقي والاجتماعي منها، وإنما المطلوب المعرفة العلمية التي تقودنا إلى معالجتها معالجة عملية شاملة لهذه الظواهر.
اضف تعليق