الاختلاف هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم يريدون العالم كما هم عليه، ومن ليس معهم فهو ضدّهم ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم ومن قومهم فعسى أن تكون أيضاً هذه السنة الكبيسة بداية لأفول عصر الفكر الكابوسي...
عاجلاً أم آجلاً ستنتهي حالة الذعر العالمي السائدة الآن من فيروس كورونا، تماماً كما حدث مع أوبئة أخرى شهدتها البشرية، وكان أشهرها في التاريخ الحديث ما جرى منذ مائة عام من انتشار لوباء الأنفلونزا الذي أطاح بعشرات الملايين من البشر، ثم عاد العالم بعد ذلك إلى سيرته التاريخية المعتادة من صراعات بين القوى الكبرى على النفوذ والمصالح، وفي داخل المجتمعات حول قضايا سياسية واجتماعية، وأحياناً بين الشعوب على مسائل ثقافية وإثنية وعرقية.
هكذا هو التاريخ الإنساني على الأرض، والذي لم ولن تتغيّر سماته مهما حدث من ضحايا كمحصّلة لحروبٍ أو أعاصيرٍ مناخية أو زلازل أو انتشار أوبئة. فالصراعات هي جزء من حتمية تطوّر الدول والناس، حتّى في المجالات العلمية والطبية والأدبية، فإنّها تتّصل بشكل كبير في تفاصيل هذه الصراعات البينية بين البشر. فكم من مكتشَف علمي نستخدمه الآن كانت بدايته في مصانع الأسلحة واحتياجات الحروب! وكم من إنجاز طبي كان أولاً في مختبرات لمؤسّسات عسكرية أو تجارية كبرى، وكانت الغاية منه التفوّق على الخصم أو تحقيق أرباح مالية ضخمة!.
ولا أعلم كم هي أيضاً الأوبئة التي بدأت بسبب اختبارات في هذه الدولة أو تلك لاستخدامها في التنافس على القوّة بين الكبار، أو في الحروب المباشرة وغير المباشرة بينها!، ولا ما هي الزلازل التي تحدث بفعل الجيولوجيا الطبيعية أو نتيجة تجارب أسلحة الدمار الشامل في المحيطات والصحاري والجبال!. ثمّ أليس الإنسان هو المسؤول عن التغيير المناخي الحاصل الآن والذي ينعكس مزيداً من الكوارث الطبيعية والحرائق والفيضانات؟!.
فسبحان الله الذي أعلمنا في قرآنه الكريم: (ونفْسٍ وما سوّاها * فألهَمَها فجورَها وتقواها * قدْ أفلحَ منْ زكّاها * وقد خابَ من دسّاها). ، وقوله تعالى: (هو أنشأكُم منَ الأرضِ واستعمرَكم فيها)، حيث الإنسان هو المسؤول عن تعمير الأرض أو هدم ما فيها!. فصحيحٌ أنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني، تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوماً الاختيار!.
وكم يغفل الكثير من الناس عن حقيقة الوجود الإنساني في الحياة الدنيا، وعمّا هو موعودٌ يوم الحساب في الحياة الآخرة. فكلُّ البشر هم استمرارٌ للإنسان الأول ومن سلالته، وحياتهم مرتبطة بحياة الإنسان الآخر وبالطبيعة حولهم، بينما تُحاسب في الآخرة كلُّ نفسٍ عن أعمالها فقط، فتنفصل عند لحظة الموت المسؤولية المشتركة عن الحياة، ليكون الثواب والعقاب تبعاً لميزان العدل مع النّفس ومع الآخر ومع الطبيعة، أو بتعبيرٍ آخر، بمقدار ظلم النّفس وظلم "الآخر" الحي أو الطبيعي.
كان العالم قبل هلع وباء كورونا يعيش هواجس "الاحتباس الحراري" والتغييرات المناخية، ممّا يهدّد بحالاتٍ عديدة من الجفاف أو الطوفان، وممّا سيترك أثراً كبيراً على فصول الاعتدال بالطبيعة (الربيع والخريف)، ويجعل الكرة الأرضية أسيرة الصيف الحار الحارق أو الشتاء البارد القاسي!.
والإنسان المعاصر ساهم طبعاً في هذا الاختلال بالتوازن الطبيعي للمناخ، الإنسان الذي استخلفه الله على الأرض لبنائها وإعمارها والحفاظ عليها، فهي أمانةٌ مستخلَفة من الخالق لم يُحسن الإنسان رعايتها.
وما يحدث في الطبيعة والمناخ نراه أيضاً قد حدث في الأفكار والمعتقدات حيث اتّجه الناس أكثر فأكثر لتبعية "رموز نارية" تشعل اللهب هنا وهناك، تحرق الأخضر واليابس معاً، فتذهب ضحية هذه القيادات والأفكار والجماعات، نفوس بريئة وأوطان عريقة!
موسم الحزن والقلق والهلع الذي يعيشه العالم الآن بسبب فيروس كورونا هو أشبه بموسم الخريف الذي تتساقط فيه أوراق الشجر كما يتساقط ضحايا الوباء في أكثر من مكان من العالم، وربّما ذلك من سوء حظّ الأجيال المعاصرة الآن لهذا الوباء كالذي حصل مع أجدادهم منذ مائة عام، والذين عاشوا أيضا بعد ذلك "موسم الشتاء" في حياتهم الاقتصادية كمحصّلة للحرب العالمية الأولى ولوباء الأنفلونزا، لكن لا نعلم بعدُ كم سيكون العلم قادراً على اختصار المراحل الزمنية لكي تشهد البشرية ربيعاً جديداً بعد ذلك، هذا العلم الذي لم يكن متوفّراً قبل قرنٍ من الزمن.
هناك مصطلح "السنة الكبيسة" الذي يتمّ استخدامه مرّة كل أربع سنوات حيث يكسب شهر شباط/فبراير يوماً إضافياً في عدد أيامه، وهو في ذلك يضيف للناس الذين يتّبعون التقويم الشمسي المعمول به عالمياً الآن، يوماً في أعمالهم وشؤونهم الحياتية، دون التوقّف عند قيمة هذا اليوم الإضافي وغير المحتسب مادياً لدى من يتقاضون أجورهم على أساس شهري. وهذا العام هو "سنة كبيسة" ولا أعلم إنْ كانت هي مصادفةً أم قراراً عن سابق تصوّر وتصميم، أن تحصل انتخابات الرئاسة الأميركية دائماً في "سنة كبيسة"، كما هو مصطلحٌ على تسميتها باللغة العربية عندما يصبح عدد أيام السنة 366 يوماً بدلاً من 365.
ولقد راودني هذا التساؤل عن التلازم بين انتخابات الرئاسة الأميركية وبين "الأعوام الكبيسة" وبين ما يحدث هذا العام من انتشار لوباء كورونا، بسبب أنّ الولايات المتحدة ستعيش يوماً إضافياً من فترة حكم ترامب الذي يعتبر كثيرون بأنّ انتخابه كان كابوساً تعيشه أميركا ويعيشه العالم معها!.
هو عصر التطرّف الآن في المناخ وفي الأفكار وفي الأوبئة، وكم سيكون مفيداً استخلاص الدروس والعبر ممّا يجري حالياً في مواجهة فيروس كورونا، حيث العالم كلّه في همٍّ واحد وفي مصيبة مشتركة ويبحث عن علاج واحد في مواجهة هذا الفيروس، بينما "أمراض إنسانية" عديدة أخرى تنخر أجساد المجتمعات والأوطان والطبيعة ولا تجد العلاج الناجع لها!.
وسيكون الأساس المطلوب بعد "عصر كورونا" هو البحث عن الفكر المعتدل، وهو ليس بالفكر الواحد أينما كان، ولا يجب أن يكون. فالاعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً. وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً، لا همّ بذلك، فالمهمّ هو اعتماد الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي والجماعي ومع الطبيعة أيضاً.
فالاختلاف هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و"من ليس معهم فهو ضدّهم"، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم ومن قومهم!.
فعسى أن تكون أيضاً هذه السنة الكبيسة بداية لأفول عصر الفكر الكابوسي!
اضف تعليق