q
الدكتاتورية تعطل العنصر الاساسي في المركب الحضاري اي الانسان، عن ممارسة حقه حيث يتألف من الانسان والارض والزمن والعلم والعمل، وهذا خلل حاد في المركب الحضاري، ونحن نطلق تعبير الخلل الحاد على التخلف، ومعه تكون الدكتاتورية اعلى اشكال التخلف السياسي وبهذا المعنى تعني اقصاء الشعب...

لا يحتاج المواطن العراقي الى من يشرح له معنى الدكتاتورية فقد عرفها وخبرها وعانى منها منذ عام ١٩٦٨ على الاقل واحسن الفروض، ولكن لمن فاته الامر اقول ان الدكتاتورية هي الاستحواذ او الانفراد او الاستيلاء على الدولة والحكومة والسلطة والثروة باسم شخص واحد، او عدد قليل من الاشخاص باسم عبادة الشخصية (كيم ايل سونغ وصدام)، او الحزب، او الطائفة، او الطبقة، او حتى الشعب او الله.

والدكتاتورية بهذا المعنى تعني اقصاء الشعب، بما فيهم فئة الناخبين (اي الذين لهم حق القول في تحديد سياسات البلد واتخاذ القرارات التي تمسهم)، عن ممارسهم حقهم الطبيعي هذا، وهذا ما قامت به الحكومات التي تولت السلطة في العراق منذ عام ١٩٥٨ على الاقل. وحينما سقط النظام الدكتاتوري عام ٢٠٠٣ كان من المفروض ارساء نظام ديمقراطي، يعيد السيادة والسلطة الى الشعب، لكن لم يحصل هذا، وحصلت انحرافات وعيوب تاسيس خطيرة انتهت الى قيام نظام اوليجارشي غير ديمقراطي، انتهى بدوره الى العجز والفشل في تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومته المستقيلة.

ولم يفكر امراء هذا النظام لحظة واحدة بالعودة الى الشعب للخروج من حالة الانسداد التي يعانون منها. وقاموا بعدة مناورات، اخرها تشكيل اللجنة السباعية، فلما فشلت رموا الكرة بملعب رئيس الجمهورية امعانا بالاستهانة بالشعب واقصائه عن ممارسة سلطاته التي ينص عليها الدستور. وخولوا مصير الحكم بيد فرد واحد ليس منتخبا اساسا من قبل الشعب، الدكتاتورية تعطل العنصر الاساسي في المركب الحضاري اي الانسان، عن ممارسة حقه حيث يتألف من الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.

وهذا خلل حاد في المركب الحضاري. ونحن نطلق تعبير الخلل الحاد على التخلف. ومعه تكون الدكتاتورية اعلى اشكال التخلف السياسي.

يكفر بعض الناس بالديمقراطية، وهم يتوهمون ان ما جرى هو فشل للديمقراطية التي لم تطبق، حالها حال الاسلام والاشتراكية وغيرها من النظريات والايديولوجيات التي تم الحكم باسمها في العراق ولم يتم تطبيقها ابدا.

يظن بعض الناس ان الخروج من هذا الوضع البائس يمكن ان يتم عبر اللجوء الى خيار "المستبد العادل"، وهو خيار ناقشه جون ستيوارت مِل (١٨٠٦-١٨٧٣) في كتابه "الحكومات البرلمانية" حيث يرى ان الحاكم المستبد الصالح "ابشع سوء فهم عنيف لمعنى الحكومة الصالحة"، فلا اعيد.

ويرى اخرون ان الحل يكمن في العودة الى نظام تكون فيه الكلمة لرئيس ذي سلطة واسعة ، وقد ناقش هذا الخيار ارشي براون في كتابه "خرافة الزعيم القوي" الذي يحمل نفس العنوان. فلا اعيد.

ولكني ازعم ان معالجة الوضع البائس والخروج من هذا الانسداد لا يمكن الا بمزيد من الديمقراطية المدعومة بالقيم الحضارية الاخلاقية المعنوية التي ستشكل مؤشرات السلوك الصحيح والسليم بشأن عناصر المركب الحضاري.

والديمقراطية تعني العودة الى الشعب. وتتم العودة الى الشعب في حالتنا الراهنة عبر امرين هما: الاستفتاء العام ، او اجراء انتخابات مبكرة بطريقة الانتخاب الفردي، من خلال تطبيق المادة ٦٤ الدستورية. يؤلمني ان الطبقة السياسية تناور لسد هذا الطريق، كما يؤلمني ان الشعب ليس حاضرا بقوة منظمة منهجية سلمية لفرض هذا الخيار. لقد انشغل المتظاهرون للاسف بامور كثيرة فتاهت بهم السبل، ولم يتمكنوا من ضبط التظاهرات والحفاظ عليها كما طلبت منهم المرجعية عدة مرات، فكانت النتيجة ان ضعف دور المتظاهرين كقوة احتجاجية مطالبة بالاصلاح.

لست ادري ان كان بقي لدينا من الزمن ما يكفي لتصحيح المسار، لكني لا اعرف طريقا غير هذا لاعادة هيكلة الدولة وبنائها على اسس ديمقراطية سليمة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق