يشهد مجتمعنا العراقي الكثير من التناقضات او الصراعات بين افراده ومجموعاته سببها الاختلاف بين مصالح ومواقف الافراد والمجموعات، وحتى لا يفقد المجتمع العراقي البوصلة ويضيع الاتجاه الصحيح لحركته، من الضروري تحديد التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية التي يشهدها او يعاني منها، وقد تحدثت عن هذه المسألة...
يعجبني مصطلحا "التناقض الرئيس" و "التناقضات الثانوية"، بعض النظر عن مصدرهما وما قد تحملانه من مدلولات فلسفية، يهمني في المصطلحين دلالاتهما السياسية والاجتماعية، فالمسلّم به ان المجتمع يحتوي على عدد كبير من التباينات والتناقضات بين افراده ومنظوماته الفرعية في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والمواقف والمقترحات، وان هذه التباينات من الاسباب الرئيسية للصراعات في المجتمع. وبغض النظر عن هذه الصراعات، فانها تشكل عامل الحركة في المجتمع. وقد اشار القران الكريم الى ذلك في قوله: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ"، "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا".
ويمكننا الان ان نميز بين نوعين من هذه الصراعات، هي: الصراعات الرئيسية والصراعات الثانوية، والمسألة نسبية ومتغيرة بحسب اختلاف الظروف والاماكن والازمنة، ومن الضروري بالنسبة للفاعلين الاجتماعيين والسياسيين ان يأخذوا هذا التمييز بنظر الاعتبار، فتكون التناقضات الرئيسية في راس جدول الاعمال، فيما يمكن تأجيل التناقضات الثانوية الى وقت اخر لحين التمكن من حسم التناقض الرئيسي.
يشهد مجتمعنا العراقي الكثير من التناقضات او الصراعات بين افراده ومجموعاته سببها الاختلاف بين مصالح ومواقف الافراد والمجموعات، وحتى لا يفقد المجتمع العراقي البوصلة ويضيع الاتجاه الصحيح لحركته، من الضروري تحديد التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية التي يشهدها او يعاني منها.
وقد تحدثت عن هذه المسألة منذ اواسط الثمانيات وقلت في وقتها ان التناقض الرئيس الذي يعاني منه العراقيون هو التناقض بين التخلف والتقدم، وقلت وما زلت اقول ان المشكلة الكبرى التي تواجه المجتمع العراقي هي التخلف الحضاري، وتعود جذور هذه المشكلة تاريخيا الى زمن الاحتلال المغولي للعراق وسقوط بغداد عام ١٢٥٨، وتشير الدراسات الى ان المجتمع العراقي الحالي هو امتداد واستمرارية للمجتمع العراقي آنذاك، فلم تحصل قطيعة او طفرة تفصل ذلك الزمن عن الزمن الراهن. وان الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع العراقي انما هي امتدادات لنفس الطواهر السلبية انذاك.
يعاني المجتمع العراقي من مشكلة التخلف الحضاري، وانا استخدم هذا المصطلح للاشارة الى انواع مختلفة من التخلف التي يحتويها هذا المصطلح، مثل التخلف السياسي، والتخلف الاقتصادي، والتخلف العلمي، والتخلف المنهجي، والتخلف الديني، وغير ذلك، والتخلف الحضاري يشير بدوره الى خلل حاد في المركب الحضاري للمجتمع والقيم الاخلاقية والمعنوية الحافة به والمصاحبة له.
ومع ان المجتمع العراقي شهد الكثير من المحاولات الاصلاحية على مدى القرون التي تلت الغزو المغولي، الا انها كانت اقل من معالجة التناقض الرئيس وهو التخلف. وحتى بعد قيام الدولة العراقية الحالية في مطلع القرن الماضي، فان الاحزاب السياسية والقوى الاجتماعية لم ترتفع الى مستوى التناقض الرئيس؛ بل لدي من الشواهد على ان هذه الحركات اصيبت بالتخلف هي الاخرى ولم تستطع التحرر منه، وبالتالي انشغلت بتناقضات ثانوية وقصرت في التعامل مع التناقض الرئيس.
ويصدق هذا بشكل واضح على الصراعات السياسية والاجتماعية والايديولوجية التي شهدها العراق منذ قيام الجمهورية عام ١٩٥٨ حتى الان (اي بعد ٧٠٠ سنة من الغزو المغولي). ولا انكر وجود "لحظات" اصلاحية بالمعنى الحضاري، لكنها كانت "لحظات"، ما تلبث ان تتلاشى من اصلاحات علاء الدين عطا ملك الجويني اول حاكم للعراق بعد الغزو المغولي الى مشروع التحول الديمقراطي الفاشل بعد الغزو الاميركي عام ٢٠٠٣. ولم يسلم من ذلك حتى الاحزاب التي نادت بالتغيير والاصلاح، الاسلامية منها والعلمانية على حد سواء، لانها ببساطة لم تشخص بطريقة علمية صائبة التناقض الرئيس وتفصله عن التناقضات الثانوية.
اضف تعليق