لا يمكن التقدم وتحقيق قفزات نوعية في حياتنا على مختلف المستويات، حينما يتم استبعاد الإسلام من الحياة العامة للمسلمين. بمعنى أن التجارب السياسية والقانونية والاجتماعية، التي استبعدت الإسلام من التوجيه والقيادة، لم تحصد إلا المزيد من التوترات والصدامات بين مشروع الدولة ومشروع المجتمع والأمة. كما...
في الحقب التاريخية السابقة، تعطل مشروع الديمقراطية في العديد من الدول العربية والإسلامية، بدعوى وتبرير أن الديمقراطية، لا زالت مشروعا طوباويا. وأن بلداننا تعيش أولويات أخرى. لذلك تأجل هذا المشروع تارة باسم الاستقلال وضرورة استكماله. وتارة أخرى بدعوى أولوية التنمية والعدالة الاجتماعية، وتارة ثالثة بفعل أن التحديات والتهديدات الخارجية التي يواجهها العالمين العربي والإسلامي، تحول دون اتخاذ الخطوات العملية في هذا السياق. فتعددت في العقود الماضية، مبررات ومسوغات تأجيل الديمقراطية.
ولكننا لم نستطع بفعل هذا التأجيل والمماطلة والتغييب، من إنجاز تنميتنا الشاملة، ولم نستطع أن ننهي التحديات والتهديدات الخارجية.
وعند التأمل والتحليل العميقين، نكتشف أن الإخفاق في كل هذه المجالات، كان بفعل التغييب المقصود للديمقراطية كنظام سياسي واجتمعي وثقافي.
وأن الأوضاع المعاصرة التي نعيشها على مختلف الصعد، لا تتحمل الدخول في نفق التأجيل والتعطيل والتغييب. وإنما هناك حاجة ماسة للديمقراطية بكل عناوينها ومجالاتها. وذلك لأنه لا يمكن أن نخرج من العديد من الاخفاقات والانتكاسات إلا بتبني الخيار الديمقراطي.
وأن الديمقراطية بالنسبة لنا، لم تعد مشروعا مثاليا، وإنما أصبحت ضرورة سياسية ومجتمعية وحضارية. وإن أي تسويف أو تأخير أو تعطيل، فإن محصلته النهائية، هو الدخول في أتون الانفجارات الاجتماعية والسياسية المفتوحة على كل الاحتمالات والمخاطر.
وإنه آن الأوان بالنسبة لنا، أن نخرج من الخديعة التاريخية التي وقعنا فيها.
فلا مقايضة بين التنمية والديمقراطية، أو بين الاستقرار والحرية، فلا تنمية بدون ديمقراطية. بل نستطيع القول: أن شرط التنمية المستدامة هو الديمقراطية السياسية الحقيقية. كما أنه لا استقرار سياسي واقتصادي وأمني، بدون نظام ديمقراطي، يكفل للجميع حقوقهم ومكتسباتهم.
كما إننا لا يمكن أن نواجه المشروع الصهيوني مواجهة حقيقية، بدون الانخراط في مشروع الإصلاحات السياسية والاقتصادية في بلداننا العربية والإسلامية.
بمعنى أن الاستبداد السياسي، يعطل الكثير من قدرات أمتنا وطاقاتها، ويخرجها من المعركة الحضارية مع العدو الصهيوني. فالديمقراطية هي بوابة انتصارنا الحضاري على الغدة السرطانية المغروسة في جسدنا العربي والإسلامي.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى الديمقراطية، ليس باعتبارها فقط، خيارنا للخروج من مآزقنا العديدة. وإنما لكونها أيضا طوق نجاتنا، وبوابة دخولنا في التاريخ من جديد.
وإن الديمقراطية أصبحت اليوم مشروعا ممكنا وقابلا للتحقق في مجالنا العربي والإسلامي.. بمعنى أن هناك العديد من العوامل والظروف المؤاتية لإنجاز هذا التطلع التاريخي.
ومهمتنا هي العمل على توظيف هذه العوامل والظروف، بما يخدم تمتين القاعدة الاجتماعية والسياسية، وتفعيل دور النخبة باتجاه توسيع المشاركة العامة، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني والحد من تغوّل السلطة واستبدادها، والسعي المتواصل من أجل تعزيز الخطوات والمبادرات والأنشطة الاجتماعية والسياسية والثقافية والحقوقية، التي تصب في مجرى الديمقراطية، وتوسع من قاعدة الخيار الديمقراطي، وتقلص من مساحة الاستفراد بالرأي واحتكار القوة والسلطة.
ووفق التجربة التاريخية والثقافية لمجالنا الإسلامي، نستطيع القول: أنه لا يمكن التقدم وتحقيق قفزات نوعية في حياتنا على مختلف المستويات، حينما يتم استبعاد الإسلام من الحياة العامة للمسلمين. بمعنى أن التجارب السياسية والقانونية والاجتماعية، التي استبعدت الإسلام من التوجيه والقيادة، لم تحصد إلا المزيد من التوترات والصدامات بين مشروع الدولة ومشروع المجتمع والأمة.
كما أن الإسلام الذي نقصده كقاعدة ثابتة لمشاريع التقدم والتطور في الأمة، ليس جملة الطقوس الفردية والارتباط السطحي والشكلي بالإسلام. بل المقصود أن تكون خياراتنا الكبرى منسجمة وقيم الإسلام، ومستوحاة من المبادئ العليا للدين. لذلك فإن طريق التقدم في المجال الإسلامي، لا يمر عبر إلغاء الإسلام أو تجاوز قيمه العليا. بل عبر استنطاق الإسلام وحضوره في الحياة السياسية والعامة للمسلمين. وهنا لا نجعل الإسلام في مواجهة الديمقراطية. لذلك فإننا ضد منطق المقايضة بين الإسلام والديمقراطية. إذ أن الأخيرة، من المكتسبات الإنسانية التي ينبغي أن نتفاعل معها، ونستفيد منها أقصى فائدة.
وعليه فإن طريق تقدم المسلمين في الحقبة المعاصرة، يمر عبر:
1. حضور الإسلام وقيمه العليا في حياة المسلمين الخاصة والعامة.
2. وتبني الديمقراطية كمنهج سياسي وإداري وقانوني، لإدارة أمورنا، وتنظيم اختلافاتنا، وضبط صــراعاتنا وتنافساتنا، وتطوير واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ولا تناقض بين ضرورة الحضور النوعي للإسلام في حياتنا العامة، وتبني الديمقراطية كمنهج وآلية وطريقة ومتطلبات. ونحن هنا لا ندعو إلى توفيقية متعسفة بين الطرفين. بل ندعو إلى قراءة الإسلام قراءة حضارية وإنسانية، بعيدا عن تجارب الاستبداد التاريخية، ومحاولات التهميش والتشويه المعاصرة. إن هذه القراءة الواعية والمدركة لجوهر التجارب الإنسانية على هذا الصعيد، ستوصلنا إلى حقيقة عميقة مفادها:
إننا لا يمكن أن نتقدم ونتطور كعرب ومسلمين إلا بجناحيّ الإسلام والديمقراطية.
صحيح أن العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، تكتنفها الكثير من التساؤلات والالتباسات والاستفهامات، وإن طبيعة العلاقة بحاجة إلى توضيح وبيان معالمها وأسسها ومعاييرها، ولكن مع كل ذلك نجزم القول: إننا كمجتمعات، لا يمكن أن نحقق قفزات كبرى في مضمار التقدم والتطور، بدون الإسلام والديمقراطية.
وهنا الديمقراطية ليست هي الوجه الثاني من المعادلة. بل أن ثراء الإسلام، وكمال قيمه، وحيوية مبادئه، وحركة الاجتهاد، وتطور مسيرة الانبعاث الإسلامي، كل ذلك سيساهم بشكل أو بآخر في إعادة تحديد أوليات المجتمعات العربية والإسلامية، وسيوفر القدرة التامة لقراءة جادة وجديدة لقيم الإسلام السياسية والحضارية.
فالدينامية والفعالية المعاصرة، لمجتمع العرب والمسلمين، مرهون إلى حد بعيد بهذه القراءة، وصياغة الواقع الإسلامي المعاصر، على ضوء وهدى حضارية الإسلام وإمكاناته المذهلة على استيعاب منجزات الإنسان ومكتسبات الحضارة.
وأمامنا اليوم فرصة تاريخية كبرى، لإعادة بناء واقعنا ومجتمعاتنا على هدى الإسلام ومنجزات العصر.
وبهذه العملية نحقق في واقعنا ديمقراطية أصيلة، لها عمقها الثقافي والاجتماعي، ولها الامتداد المطلوب على الصعيدين الفكري والفلسفي. وتنطوي هذه العملية التاريخية، على إمكانية التقدم والتطور على قاعدة التكامل بين الغايات المادية والمتطلبات الروحية والمعنوية.
والتحديث القسري على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، لا يصنع ديمقراطية، بل يفضي إلى أشكال من الديمقراطية مع مضامين استبدادية وأمنية صرفة.
ولهذا نجد على مستوى التجربة في المجالين العربي والإسلامي، أن محاولات التحديث القسري رافقها باستمرار ضمور وتحديد وتقليص للمشاركة السياسية العامة، وتعاظم العلاقة غير المتكافئة مع القوى الخارجية، وخطوات متواصلة لطمس الهوية الذاتية وتعبيراتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتبني خيارات قمعية وإقصائية تجاه المكونات والتعبيرات السياسية المغايرة. وكأن النخبة التي تقود عملية التحديث القسري، تجبر النقص في قاعدتها الاجتماعية بالارتماء في أحضان الأجنبي، وبعدم سلامة وصلاحية مشروعاتها التحديثية باستخدام القهر والقمع في تنفيذها.
وغفلت هذه النخبة عن حقيقة أساسية وهي: أنه لا يمكن إنجاز التحديث الاقتصادي والاجتماعي في المجالين العربي والإسلامي، بدون إصلاح سياسي حقيقي، يوسع من دائرة المشاركة السياسية، ويعطي الشعب بكل مكوناته وتعبيراته الحق القانوني والعملي بإدارة شؤونه، وتسيير أموره، وتحديد خياراته، وبلورة مصائره الراهنة والمستقبلية.
فلا تحديث حقيقي في ظل الاستبداد والديكتاتورية، وإقصاء القوى السياسية والاجتماعية. وكل محاولة تحديثية، لا تلتفت إلى هذه الحقيقة، فإن مآلها الفشل الذريع والدخول في متاهات جديدة وإحباطات متراكمة.
فالديمقراطية بكل عناوينها السياسية والثقافية والاقتصادية، هي بوابة التحديث الحقيقي في بلداننا العربية والإسلامية، وذلك لأن الديمقراطية، هي التي تقوم بتطوير البنى الاجتماعية والسياسية، وذلك لرعاية واحتضان كل تجليات التحديث وخطواته المتنوعة.
وبهذا يتم تحرير فكرة التقدم والتحديث من شبكة العنكبوت التي نسجتها الأفكار الغربية وحالات الاستنساخ الحرفي للتجارب والتصورات. والتجارب الإنسانية ليست مجالا للاستنساخ والتبني المطلق، وإنما هي للتعلم منها، واستنباط الدروس والعبر والخبرة من أحوالها ومحطاتها.
وبهذا تمتزج في واقعنا إرادة التعلم من التجارب الإنسانية والسياسية، مع الرؤية النقدية التحليلية، التي تتجه إلى تمحيص هذه التجارب، وغربلة هذه الخبرات، وذلك من أجل اجتراح رؤية وتجربة جديدة، مفتوحة على التجارب والخبرات الإنسانية، كما أنها تتواصل بشكل عميق مع خصوصياتها ووقائعها الذاتية. وبهذا تستجيب مجتمعاتنا إلى قواعد الإيمان، وتنسجم وضرورة الشهود والمشاركة في العمران الحضاري.
اضف تعليق