الواقعية السياسية أو لغة المصالح والقوة وتوازناتها هي السائدة في العلاقات الدولية، وأن مدرسة المثالية السياسية القائمة على نهج السلام والقانون وبالشعارات والأيديولوجيات والعواطف كمحدد رئيس للسياسة انتهى منذ نصائح مكيافلي لأمير فلورنسا في كتابه (الأمير) في بداية القرن السادس عشر وتأكد أكثر مع سقوط جدار برلين...

تقوم السياسات الدولية وخصوصاً في الوقت الراهن على الواقعية السياسية المحكومة بالمصالح وتوازن القوى وخصوصاً بالنسبة للدول العظمى التي لا تلتزم بمبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية وبالقيم الأخلاقية إلا ما يخدم منها مصالحها، وفي كثير من الأحيان تتداخل السياسة الواقعية مع السياسية العدوانية.

فمن يتابع ما يجري على أرض الواقع في العالم سيكتشف أن الواقعية السياسية أو لغة المصالح والقوة وتوازناتها هي السائدة في العلاقات الدولية، وأن مدرسة المثالية السياسية القائمة على نهج السلام والقانون وبالشعارات والأيديولوجيات والعواطف كمحدد رئيس للسياسة انتهى منذ نصائح نيكولاي مكيافلي لأمير فلورنسا في كتابه (الأمير) في بداية القرن السادس عشر وتأكد أكثر مع سقوط جدار برلين.

السياسة الواقعية المتعارضة مع القانون الدولي والشرعية الدولية والأخلاق الإنسانية ليست حكراً على إسرائيل ودول الغرب، صحيح أن الواقعية السياسية التي يتصرف على أساسها الرئيس ترامب واعتماداً عليها وضع صفقته لتسوية الصراع في المنطقة بالغت في انتهاك القانون الدولي والشرعية الدولية وانتهاك حقوق وطنية تاريخية للفلسطينيين على أرضهم، إلا أن دولاً أخرى تمارس الواقعية السياسية وتنتهك القانون الدولي ولكن بدرجة أقل استفزازاً، فهل التدخل الروسي والتركي والإيراني في الدول العربية يحترم ويتوافق مع الشرعية الدولية؟وهل التدخل السعودي والخليجي بشكل عام في اليمن وليبيا وسوريا منسجم مع الشرعية الدولية وقراراتها؟.

لا محاججة بأنه من الواجب الوطني والأخلاقي والإنساني أن نرفض صفقة ترامب لأنها تتعارض مع القانون الدولي والشرعية الدولية ومع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني المستمَدة من الشرعية الدولية ومن واقع تاريخ الشعب الفلسطيني المتواجد على أرضه منذ آلاف السنين، وبالفعل رفض الشعب الفلسطيني صفقة القرن كما رفضتها جامعة الدول العربية وستذهب القيادة الفلسطينية لمؤتمر القمة الإسلامية وللاتحاد الأفريقي وللأمم المتحدة وستحصل على ما تطلبه من رفض لصفقة القرن والتمسك بقرارات الشرعية الدولية، ولكن...

هل خطاب الرفض المتسلح بالشرعية الدولية وبالأخلاق الإنسانية يكفي لوحده لمواجهة صفقة ترامب –نتنياهو؟ وهل قرارات الشرعية الدولية تطبَّق من تلقاء ذاتها؟ ألا يجري منذ سنوات تطبيق بعض بنود صفقة القرن على الأرض وقبل أن يُعلن عنها رسمياً، من بناء جدار الفصل العنصري والاستيطان وضم القدس والجولان وهدم البيوت وشق الطرق الخ في ظل وجود قرارات الشرعية الدولية وعلى مسمع ونظر الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الإفريقي؟.

المشكلة تكمن في أن دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية تتصرف بواقعية سياسية في القضايا التي تمس مصالحها القومية كما تراها الأنظمة القائمة وتضرب بعُرض الحائط أو تتجاهل الشرعية الدولية، ولكن عندما يكون الأمر متعلقاً بالقضية الفلسطينية فإنها تتحدث بوداعة وعقلانية وبلغة المظلومية الواقعة على الشعب الفلسطيني وبلغة القانون والأخلاق أو بالمثالية السياسية وتريد تطبيق القانون الدولي والشرعية الدولية لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وتطالب الشعب الفلسطيني أن يبتعد عن أسلوب القوة حتى في سياق الدفاع عن النفس وأن يستمر ملتزما بنهج السلام !!.

نعم نرفض صفقة القرن التي يعتبرها ترامب ومن يدعم خطته أنها تمثل حل واقعي وعقلاني، ولكن الرفض لوحده ليس موقفاً عقلانياً وواقعياً إن لم يكن مصحوباً بإستراتيجية عمل تحوِّل خطاب الرفض إلى ممارسة تغير الواقع الذي قامت عليه الصفقة أو تفاهمات ترامب -نتنياهو التي بنيت على واقع مخرجات فوضى الربيع العربي وواقع الانقسام الفلسطيني والاختلال في النظام الدولي وضعف الشرعية الدولية وجبروت القوة الأمريكية والإسرائيلية، ولا يمكن مواجهة الواقعية الأمريكية الفجة والعدوانية بالمثالية السياسية من الشعارات الأيديولوجيات والقرارات الانفعالية والعاطفية وقرارات الشرعية الدولية، والتي نعرف بأنها لم ولن تطبق.

هلل البعض وصفق لبيان وزراء الخارجية العرب، ولكن متى التزمت الأنظمة العربية بالبيانات والقرارات والاتفاقيات التي تصدر حتى عن القمم العربية منذ اتفاقية الدفاع العربي المشترك في الخمسينيات وقمة الخرطوم بعد حرب حزيران (لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل) إلى قمة بغداد (قمة الصمود والتحدي) بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، إلى قمة بيروت 2002 والمبادرة العربية للسلام؟، ما هو مصير كل هذه الاتفاقات والقرارات العربية حول فلسطين؟ ألم يحدث كل هذا الانهيار للقضية الفلسطينية وللعلاقات البينية العربية في ظل وجود هذه القرارات والبيانات والاتفاقيات؟ وهل نصدق البيانات والقرارات الرسمية أم واقع العلاقات الرسمية بين دول عربية وإسرائيل وآخرها لقاء عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي السوداني مع نتنياهو في اوغندة؟.

وبصراحة نقول، حتى الآن لا يوجد رد عقلاني وواقعي على الصفقة وكل ما نسمع شعارات وخطابات رفض تتلاعب بالعقول وتدغدغ المشاعر وتخلق حالة من الوهم بالنصر والرضى عن الذات ولكنها لا ولن تُغيِّر أو تؤثر على الواقع.

لا نقلل من قيمة وأهمية الرفض الفلسطيني والعربي الرسمي والشعبي للصفقة، ويحب إعادة النظر بمقولة إن الصفقة ستمر سواء وافق عليها الفلسطينيون أم لم يوافقوا لأنه يجري تنفيذ الصفقة بالفعل على أرض الواقع الخ ! الخطورة في هذا القول وربما التضليل المتَعَمد الذي يرمي لجعل الصفقة أمراً واقعاً يجب الاعتراف به، يأتي من عدم التفريق بين تمرير الصفقة بموافقة فلسطينية أو بدون موافقة، فتمريرها بموافقة طرف فلسطيني رسمي وخصوصاً منظمة التحرير يعني نهاية وتصفية القضية الفلسطينية وهذا سيتم توثيقه باتفاقات يتم إيداعها في الأمم المتحدة وسيترتب عليها شطب وإلغاء كل الاتفاقات والقرارات الدولية السابقة وقطع الطريق على أية مطالبات فلسطينية مستقبلية، أما تمرير الصفقة بدون موافقة فلسطينية فسيحوُّل الصفقة إلى سياسة عدوانية وفرض أمر واقع، ومعناه أيضاً بقاء الصراع مفتوحاً واستمرار العلاقة القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين علاقة دولة احتلال مع شعب خاضع للاحتلال.

من الجيد أن نرفض ويرفض العالم تفاهمات ترامب-نتنياهو ولكن الرفض وحده لا يكفي وعلينا التفكير بعقلانية وواقعية، وهي الواقعية التي تحكم السياسة الدولية بل والداخلية لكل دول العالم بما فيها الأنظمة العربية. قد يقول قائل إن المطالبة بتحرير فلسطين وقيام دولة مستقلة والدعوة لمقاومة الاحتلال مطالب عقلانية وواقعية، وهذا كلام صحيح ولكن كيفية تحقيق هذه المطالب هو الذي يحتاج لتعامل عقلاني واقعي يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى القائمة وكيفية مواجهتها.

عندما نطالب بأن يتصرف الفلسطينيون والعرب والمسلمون بواقعية تجاه القضية الفلسطينية وفي التعامل مع تفاهمات ترامب-نتنياهو فلا نقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع المفروض بالقوة والعدوان الإسرائيلي والأمريكي ولا الهروب نحو مغامرة هدم المعبد على من فيه، بل التفكير بطريقة تؤسِس لفهم عقلاني للواقع لتغييره، عقلانية تمثل حالة ثورة تؤسِس لوضع استراتيجية عمل بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات والتفكير الغيبي وبعيداً عن كل أنماط العمل والتفكير التي سادت طوال عقود وكانت تخدم سياسة العدو أكثر مما تخدم قضايانا المصيرية، نحتاج لواقعية سياسية فلسطينية، تبدأ باعتراف الطبقة السياسية الحاكمة في الضفة وغزة بالخطأ بل الأخطاء التي ارتكبتها بحق الشعب والقضية وأن تُوقِف هذه الطبقة السياسية مراهناتها الكُلية على الشرعية الدولية ومحكمة الجنايات وعلى أنظمة تدعمها بالمال لإطالة عمرها الوظيفي في السلطة، وتنتهي بوضع استراتيجية وطنية تجمع ما بين توظيف عناصر القوة عند الشعب وهي كثيرة ومنها المقاومة الشعبية والعصيان المدني والمقاطعة من جانب، وحراك سياسي ودبلوماسية برجال جُدد ورؤية جديدة من جانب آخر.

Ibrahemibrach1@gmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق