الوحدة لا تساوي بالضرورة، أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة في كل شيء.. ومن يبحث عن الوحدة بهذا المعنى، فهو أحد حالتين: إما أنه سيصدم بحقائق التنوع الراسخة في الوجود الاجتماعي والإنساني، مما يجعله يتراجع عن رؤيته الشوفينية والعدمية للوحدة، أو إنه سيمارس القهر...
ثمة تصورا ورؤية أيدلوجية وفكرية وسياسية، قائمة على ضرورة أن تتحد قناعات الناس وأفكارهم وآراءهم، حتى يتسنى لهم صناعة التقدم أو الانخراط في مشروع التطور في مجالات الحياة المختلفة.. فهي تصورات وآراء، لا تحبذ التنوع والتعدد والاختلاف، وإذا امتلكت القدرة المادية أو السلطة، فإنها تستخدم وسائل قسرية لإنجاز مفهوم الوحدة بدحر وإفناء كل حقائق التعدد والتنوع من الفضاء الاجتماعي..
لهذا فإن هذه الأيدلوجيات تعمل بآليات متعددة ومتداخلة، لإنهاء كل مظاهر التعدد والتنوع.. وذلك لأن فهمها للوحدة قائم وكأنها المعادل الموضوعي للرأي الواحد والموقف الواحد.. وهذا بطبيعة الحال مما تأباه نواميس الحياة وحقائق مجتمعاتنا التاريخية والثقافية والواقعية..
فالوحدة لا تساوي بالضرورة، أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة في كل شيء.. ومن يبحث عن الوحدة بهذا المعنى، فهو أحد حالتين: إما أنه سيصدم بحقائق التنوع الراسخة في الوجود الاجتماعي والإنساني، مما يجعله يتراجع عن رؤيته الشوفينية والعدمية للوحدة، أو إنه سيمارس القهر والعنف من أجل إنجاز مفهومه للوحدة. ولا ريب أن استخدام وسائل القهر وآليات العنف، في كل التجارب الإنسانية، لا تفضي على الصعيد الواقعي إلى الوحدة الصلبة في الفضاء الاجتماعي والسياسي.. بل هي (أي آليات العنف ووسائل القهر) تؤسس لتشظيات وانقسامات عميقة عمودية وأفقية في المجتمع الواحد.. ولعل الذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن الإنسان أو الجهة التي تستخدم العنف لبناء الوحدة الاجتماعية والسياسية، فهي تعيش مفارقة كبرى على هذا الصعيد..
فباسم الوحدة يتم تجزئة المجتمع، وباسم الوفاق والأخوة، يتم غرس أخدود عميق بين تعبيرات المجتمع الواحد، وباسم الاتحاد والائتلاف تتعمق أسباب الفرقة والتشرذم في الفضاء الاجتماعي..
فالوحدة بكل مستوياتها، لا تنجز بوسائل عنفية وقهرية، كما أنها لا تتحقق بدحر حقائق التنوع والتعدد، وإنما باحترام هذه الحقائق وضمان حق الاختلاف..
ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق، هو عدم ترذيل الاختلاف، وضمان حق الجميع في أن تكون لديهم قناعات وأفكار مختلفة عن قناعاتي وأفكاري..
إننا نعتقد إن ضمان حق الاختلاف بكل مستوياته، هو الخطوة الأولى في بناء مشروع الوحدة الاجتماعية والسياسية على أسس صلبة ومستقرة..
ودون ذلك ستبقى الوحدة، من الشعارات المجردة، التي لا تسند بحقائق مجتمعية، تحول الشعار إلى حقيقة راسخة في الوجود الإنساني والاجتماعي.. والسؤال المركزي الذي يمكن أن يوضح حقيقة حق الاختلاف من جميع أبعاده هو: كيف نحمي ونضمن حق الاختلاف في مجتمع متعدد ومتنوع على المستويين الأفقي والعمودي..
1- الإيمان العميق بقيمة الحرية وإن من لوازمها الأساسية صيانة حق الاختلاف.. فلا يمكن أن يدعي أي إنسان، بأنه يؤمن بالحرية ويعمل على قمع حق الاختلاف.. لأن حماية حق الاختلاف هو إحدى الثمار الأساسية لقيمة الحرية..
ويبدو إننا لا يمكن أن نصون قيمة الاختلاف، بدون تعميق قيمة الحرية في الفضاء الاجتماعي والثقافي.. فجذر حق الاختلاف، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل الحقائق والمقاصد، وإنما هم يجتهدوا ويعملوا العقل ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد وتعدد نتائجه، يتأسس الاختلاف في الفهم والإدراك والقناعات والمواقف، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع.. فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر لحقيقة التعدد والتنوع.. أعني أن التنوع لا بد أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه.. وهو وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة..
ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز التطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ.. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار..
وإجماع الأمة تاريخيا حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك، ليس وليد الرأي الواحد، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الذي أثرى الواقع، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع..
والإسلام بكل نظمه وتشريعاته، كفل حق الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو سبيل التعامل بين المختلفين.. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة والأنانية، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو..
فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية.. النزاع والخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل.. وعلى هذا من الضروري أن نجدد رؤيتنا للاختلاف ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لا ترى فيه إثما ومعصية، وإنما قدرة مفتوحة ومتواصلة لإثراء الحقيقة والواقع..
2- ما دام من حق الجميع أن يختلف عن غيره، ويعبر عن هذا الاختلاف ضمن وسائل سلمية وحضارية، من الضروري أو نوضح أن الذي ينظم هذه المسألة هو وجود منظومة قانونية متكاملة، توضح الحدود، وتحول دون الافتئات على أحد، أو خلق حالة من الفوضى في المجتمع والوطن الواحد.. فسيادة القانون هي ضمانة الجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم، دون أن يقود هذا الحق إلى خلق الفوضى في المجتمع..
وعليه فإن حق الاختلاف لا يمكن صيانته وإدارته في إطار اجتماعي، إلا بسيادة القانون الذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة، بدون تحيز لأحد أو تغطية لتصرفات طرف دون بقية الأطراف.. فالعلاقة بين حق الاختلاف وسيادة القانون، علاقة عميقة، لأنه لا يمكن ضمان حق الاختلاف على المستويين الاجتماعي والوطني بدون سيادة القانون.. والقانون بدون ضمان حق الاختلاف، سيتحول إلى غطاء لتمرير ممارسات وتصرفات لا تنسجم وروح القانون وطبيعة التنوع الذي يحتضنها أي وجود إنساني.. والقانون هو الذي يضمن عدم إنتاج العصبيات الدينية والمذهبية والقومية دون أن يفتئت على خصوصياتها..
وخلاصة القول: إن دولنا ومجتمعاتنا العربية مطالبة بحماية حق الاختلاف وضبطه بمنظومة قانونية وذلك من أجل ضمان الاستقرار السياسي وفق أسس سليمة وعميقة..
اضف تعليق