المشكلة، ان تلك الانظمة التي رفعت شعارات معينة، قد تكون مفهومة او واقعية في مرحلة ما، ومن الممكن تحقيق شيء منها، ترى ان من العار او الهزيمة ان تغيّر او تجدد رؤيتها الفكرية او السياسية، وبذلك ظلت اسيرة تكلسها العقائدي، الذي يضطرها لاستخدام الفهلوة السياسية، بدلا من الذكاء الحقيقي...
روى لي صديق، حكاية طريفة، حصلت معه في سبعينيات القرن الماضي، قال؛ كنت مع اخي الكبير، نتمشى في بغداد، وعند جسر لعبور المشاة، في جانب الكرخ، توقف اخي ليسلم على رجل خمسيني، صاحب بسطة، حيث لم تكن البسطات، وقتذاك، بالكثافة التي هي عليها الان، او في تسعينيات الحصار، وبعد حديث قصير لأخي معه غادرنا مكان الرجل، الذي ظل واقفا امام بسطته المكونة من اكياس صغيرة لسموم القوارض وبعض الاعشاب المجففة وغيرها، ولمّا ابتعدنا قليلا، قال لي اخي بصوت خفيض، وكإنه يسرني بشيء خطير، ان هذا فلان، اعرفه منذ الصغر، شخص ثعلب، يستطيع ان يبيعك في السوق من دون ان تدري!! وراح يعدد لي كيف انه يخدع الزبائن ليبيع بضاعته باسعار مرتفعة.
وغيرها من الافعال التي تنم عن فهلوة، وقدرة على الاحتيال! يقول صديقي، ادهشني رأي اخي بهذا الرجل البائس، الذي يقضي نهاره مصلوبا في العراء، متحملا حرّ العراق وقرّه، لكي يحصل على مردود قليل، بالكاد يسد مصاريفه، لاسيما انه، وكما ذكر اخي، يحتسي الخمرة كل يوم، ويسكن في احد الفنادق الشعبية الرخيصة، كونه غير متزوج .. قلت لاخي، والكلام مازال لصديقي؛ اذا كان هذا الرجل ثعلب، كما تصفه، ويتمتع بالقدرة على الخداع الذي ينم عن ذكاء، فلماذا لم يسع لاكمال تعليمه، ليحصل على وظيفة محترمة، او يصبح تاجرا كبيرا، لينتشل نفسه من واقعه البائس هذا؟! لاادري ماذا كان رد اخ الصديق، الذي لابد ان هذا السؤال احرجه، وربما جعله يعيد النظر بتقييمه لذكاء هذا الرجل المسكين.
كثيرا ما اتذكر هذه الحكاية، وانا استمع الى الكثيرين، ممن يمتدحون ذكاء بعض الانظمة في المنطقة، وقدرتها على مواجهة المشاكل، وكيفية تغلبها عليها، ويستعرضون لتلك المشاكل التي لم يجد المرء صعوبة في معرفة، انها من صنع الانظمة نفسها، بفعل تبنيها عقائد ومشاريع غير واقعية، او عفا عليها الزمان، لان من آيات الذكاء الحقيقي، ان يقرأ الانسان معطيات مرحلته، فردا او جماعة، ليتعامل معها باستحقاقاتها، وعلى مختلف المستويات.
اذ من غير الممكن ان تكون الثقافة السياسية مطلع القرن العشرين، مثلا، هي نفسها التي في منتصفه، او ان تكون ثقافة الستينيات هي نفسها في الثمانينيات، وهكذا، لان تاريخ البشرية ليس مجرد ارقام، وانما احداثا، والاحداث تصنع مزاجا عاما، مثلما تصنع عقلا جمعيا، على الرغم من وجود التباينات.
المشكلة، ان تلك الانظمة التي رفعت شعارات معينة، قد تكون مفهومة او واقعية في مرحلة ما، ومن الممكن تحقيق شيء منها، ترى ان من العار او الهزيمة ان تغيّر او تجدد رؤيتها الفكرية او السياسية، وبذلك ظلت اسيرة تكلسها العقائدي، الذي يضطرها لاستخدام الفهلوة السياسية، بدلا من الذكاء الحقيقي، للتخلص من مأزقها المتجدد والمستمر.
لاشك ان رجل البسطة الفهلوي، يعيش وهم اللذّة التي تدفعه للاستمرار بحياته البائسة تلك، ومن بين اسباب هذا الوهم، مايسمعه من الاخرين، بانه شاطر ويلعب على الحبال بمهارة، ويستطيع ان يبيع الناس في السوق! .. الخ من هذه الترهات التي لم ترفع مستوى حياته، وان الذين يعطونه صورة خادعة عن نفسه، شركاء في تدميره، وان لم يعلموا .. تماما كما يفعل المطبّلون لبعض الانظمة التي تئن شعوبها تحت وطأة القمع والحرمان والجوع والعزلة عن العالم، بينما يصورها البعض من المضللين، بانها انظمة متحدية وثورية، لتبقى ومعها شعوبها تحت هجير الصيف وزمهرير الشتاء .. منتشية باوهامها!.
اضف تعليق