بلغة السياسة والقانون التي تفرزها النظريات الديمقراطية لا يوجد مفهوم أو موضوع عنوانه الشعب هو الكتلة الأكبر لأن الشعب هو كل سكان الدولة، أي أنه ليس كتلة بذاته أو كتلة في مقابل الكتل بل أن جميع الكتل السياسية تنشأ منه. وليس هناك في الدولة ما يقابل شعب...
بلغة السياسة والقانون التي تفرزها النظريات الديمقراطية؛ لا يوجد مفهوم أو موضوع عنوانه ((الشعب هو الكتلة الأكبر))؛ لأن الشعب هو كل سكان الدولة، أي أنه ليس كتلة بذاته، أو كتلة في مقابل الكتل؛ بل أن جميع الكتل السياسية تنشأ منه. وليس هناك في الدولة ما يقابل شعب الدولة ليكون الكتلة الأصغر. وبالتالي؛ فهي مقولة غير صحيحة بالمعايير السياسية والقانونية.
أما بلغة الواقع، فإن إدعاء تمثيل الشعب هو ادعاء مستحيل؛ إلّا بالصيغ المتعارفة عقلاً وعرفاً، وإن كان هذا التمثيل نسبياً وناقصاً ومشوهاً، إلّا أنه تمثيل بالحد الأدنى. أما إدّعاء التمثيل واحتكار التمثيل، فلا شرعية له ولا قيمة قانونية وسياسية له.
مثلاً: تبرز مجموعة أشخاص ناشطين في مدينة ما، يجتمع حولهم بعض أبناء المدينة، ثم يقفون وسط المدينة أو في مكان عام، ويصرخون:
((نحن المدينة والمدينة نحن، ونحن نمثل المدينة، ونحن نعبِّر عن إرادة سكان المدينة، وأنّ حاكم المدينة لايمثل المدينة وأن مجلس المدينة المنتخب لايمثل المدينة أيضاً)).
وحينها يهتف آخرون تأييداً لهم، وتبث وسائل الإعلام والتواصل أخبارهم بالتأييد أو الرفض.
هنا سيأتي بعض حكماء المدينة وكبارها ليسأل هذه المجموعة:
((ماهي حجتكم بأنكم المدينة وأنكم تمثلون سكان المدينة؟ أنتم عددكم مع من هتف لكم، حوالي (100) شخص، بينما عدد سكان المدينة عشرة آلاف شخص)).
ستقول المجموعة:
((إن مطاليبنا هي مطاليب سكان المدينة، وأن سكان المدينة يؤيدوننا)).
حينها يقول الحكماء:
((وكيف نعرف أن سكان المدينة يؤيدونكم؟ هل جمعتم تواقيع أغلب سكان المدينة بإشراف محايد؟ أو هل انتخبكم أغلب سكان المدينة بطريقة مقبولة ما؟ ومتى حصل ذلك؟ وكيف؟ وأين؟ وهل هناك جهة محايدة أشرفت على انتخابكم؟)).
ستجيب المجموعة:
((اسألوا السكان عن المطاليب التي نطرحها، ستجدونهم يؤيدونها)).
سيقول الحكماء:
((هناك مجموعات كثيرة غيركم ترفع مطاليب متشابهة، وقد أيدهم كثير من السكان أيضاً. وهناك مجموعات أخرى ترفع مطاليب أخرى. وجميعها تزعم أنها تمثل سكان المدينة. فلم أنتم بالذات تمثلون المدينة وتلك المجموعات الأخرى لاتمثلها؟)).
هذا المثال المبسط، يطرح إشكالية عميقة لايمكن حلّها في ظل مبادئ الديمقراطية؛ لأن صيغ الغلبة وفرض الأمر الواقع ودكتاتورية الصوت العالي؛ هي صيغ اندثرت ولا تمت الى مفاهيم الديمقراطية والتحضر والمدنية بصلة.
هناك أمر آخر، وهو أن تقدُّم أي مجموعة لرفع مطاليب عامة ينادي بها أيضاً جزء كبير من الشعب، لايعني أن هذه المجموعة اكتسبت شرعية تمثيل كل الشعب، وأنها باتت تحتكر قرار الشعب، لمجرد أنها نادت بتلك المطاليب، لأنّ هناك مجاميع أخرى تنادي بمطاليب متشابهة، بل هناك مجاميع أخرى تنادي بمطاليب متعارضة أو غير متشابهة. فمن سيكون له الحق بتمثيل الشعب؟. بل أن هناك ملايين غير المشاركين بحراك هؤلاء وأولئك، ولم يعبروا علناً عن آرائهم سلباً أو إيجاباً؛ فهل هؤلاء ليسوا من الشعب؟ وهل مزاعم تمثيلهم من أي طرف كان، هي مزاعم واقعية وشرعية؟
مثلاً: هناك مجموعة من (1000) شخص تتظاهر وترفع شعار إعادة قانون الخدمة الإلزامية، ويقولون أن الشعب يؤيدهم، وأنهم يعبرون عن رأي الشعب. وهناك مجموعة أخرى من (1000) شخص أيضاً تتظاهر ضدهم لرفض القانون، ويقولون أن ثلاثة ملايين شخص يؤيدونهم.
فما هو المعيار هنا في تمثيل الشعب؟ وبأي رأي ستأخذ الحكومة؟. هنا الديمقراطية حلّت المشكلة، ووضعت معايير لمن يمثل الشعب، لكي تأخذ الحكومة برأيه. وكان نتاج هذه المعايير هو البرلمان المنتخب من أغلبية الشعب. وهذا البرلمان يصوت هو الآخر بالأغلبية. ما يعني أنه لا حل توصل إليه العقل البشري ـ بالنسبة لنا أيضاً كمسلمين في غيبة المعصوم ـ سوى الأخذ برأي الأغلبية، وإن كانت أغلبية نسبية مفروزة عن أغلبية نسبية.
بالتالي فإن شرعية تمثيل الشعب، تتم من خلال إحدى الصيغ التالية:
1- الإجماع النسبي الشعبي غير الرسمي: وهي صيغة نادرة وخاصة، تحصل دون إجراء انتخابات أو استفتاء قانوني، وتنحصر مصاديقها في القيادات الروحية والدينية الكبرى، أو قيادات الثورات الشعبية التي يشترك فيها أغلب الشعب.
2- الإستفتاء الشعبي العام الرسمي: ويتمثل في حصول شخص ما أو جماعة ما على تأييد أغلبية الشعب، أو تأييد أغلبية المشاركين في الإستفتاء، دون وجود منافسين. وهو تمثيل شرعي تام، وإن كان يفتقد الى صيغة التنافس الديمقراطي.
3- الإنتخاب الرسمي: وهي ترجيح الشعب لشخص أو جماعة ما، مقابل أشخاص آخرين أو جماعات أخرى. ويتم هذا الترجيح عبر صيغ الانتخاب والتنافس المتعارفة ديمقراطياً. ويكون تمثيل هذا الشخص أو تلك الجماعة للشعب تمثيلاً شرعياً، وإن انتخبهم جزء من الشعب وفق القانون النافد.
عليه؛ فإن كون ((الشعب هو الكتلة الأكبر))، وأن جماعة معينة أو حزباُ معيناً أو كتلة معينة تزعم تمثيل الشعب؛ إنما هي مقولات غير واقعية. نعم.. يمكن أن تكون الكتلة الأكبر المنتخبة شعبياً هي التي تمثل الشعب، وإن كان تمثيلاً نسبياً وناقصاً.
اضف تعليق