من أين أكتسب العراقيون هذه القسوة، وهم المعروفون برقة قلوبهم وسمو مشاعرهم التي تجسدت بأوضح صورها في شعرهم وأغانيهم وغيرها من أشكال التعبير على مدى تاريخهم الطويل، يعزو البعض تعاظم ظاهرة القسوة الى قوى دولية واقليمية خارجية، لا ننكر هذا العامل وندرك جيدا دوره في اشعال حرائقنا غير المنتهية...
ان الغيرة والشهامة والكرم والايثار من بين كثير من الصفات الأصيلة التي يتحلى بها العراقيون دون غيرهم، اذ لا تجد هذه الخصائص مجتمعة لدى أي شعب آخر، وهذا ليس تقليلا من شأن الآخرين او تعاليا عليهم، لكنك سرعان ما تفتقد بعض هذه الصفات عند اختلاطك بشعوب عربية او أجنبية. وبلا شك ان الحديث عن خصائص العراقيين النبيلة يطول، ذلك ان شعبا جذوره ضاربة في عمق التاريخ، وله هذا الماضي المكتظ بالأمجاد والشواهد الحضارية والنماذج السامية، لا يمكن له الا ان يكون هكذا.
ومع كل هذه الحقائق النفسية والاجتماعية، الا ان التجارب السياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي، والسنوات التي أعقبت الاحتلال الامريكي للعراق كشفت عن ظاهرة القسوة الغريبة في أطوارها والمتسعة في مساحتها، فقد وصل الأمر الى حد نحر أبناء الوطن بالسكين والتمثيل بجثثهم وتعليقها على الأعمدة، ووضع الرؤوس على أرصفة الشوارع وفي المزابل تعبث بها الكلاب والجرذان، والقتل الجماعي، واستخدام أدوات غاية في البشاعة لإنهاء حياة الاخوان، وطالت القسوة حتى المقدسات بتفجير مراقد الرموز الكبيرة واغتيال وسبي النساء وغيرها من المظاهر التي شابت لها الرؤوس واقشعرت منها الأبدان، بذرائع الاختلاف الايديولوجي او العقائدي او المصالح السياسية والاقتصادية.
فمن أين أكتسب العراقيون هذه القسوة، وهم المعروفون برقة قلوبهم وسمو مشاعرهم التي تجسدت بأوضح صورها في شعرهم وأغانيهم وغيرها من أشكال التعبير على مدى تاريخهم الطويل.
يعزو البعض تعاظم ظاهرة القسوة الى قوى دولية واقليمية خارجية، لا ننكر هذا العامل وندرك جيدا دوره في اشعال حرائقنا غير المنتهية، ولكن أليست أدواته عراقية، فلا يمكن لأي قوة خارجية أن تحقق أهدافها في بلدنا، ان لم تستعن بأطراف محلية مستعدة لحمل البنادق والخناجر نيابة عنها، وبالتالي فالظاهرة عراقية، بدلالة تعرض بلدان كثيرة لأزمات مماثلة لازمتنا الراهنة ويشكل العامل الخارجي أحد فواعلها، لكن قسوة العنف لم تبلغ فيها ما حصل عندنا، ومثالها الأزمة اللبنانية التي تتشابه في وجوه متعددة وتكاد أن تكون متطابقة مع أزمتنا، لكن خسائرهم البشرية تعد على أصابع اليد الواحدة، بينما وصلت في بلادنا الى أكثر من (450) شهيدا و (22) ألف جريح، وآلاف المعتقلين بحسب ما ذكرته مفوضية حقوق الانسان.
فهل يعني هذا ان الشخصية العراقية تنطوي على روح عدوانية؟ والا بماذا نفسر هذه القسوة الوحشية في هدر أرواح الشباب، واذا كانت العدوانية سمة راسخة في شخصية الانسان العراقي تجعله مستعدا لاقتراف أبشع صور العنف، فعلينا ان نتساءل كيف تكونت هذه الروح حتى بلغت ما بلغته، وماذا يجب علينا فعله لاستئصالها وبناء شخصية جديدة مختلفة؟.
لا انكر صعوبة ذلك، ولكن ما السبيل لمواجهة خطورة هذا التحدي الذي يهدد ثروتنا الشبابية ومستقبل بلادنا؟ بالتأكيد عوامل شتى تقف وراء نمو هذه الظاهرة واتساعها حتى غدت معها صور العدوان الاخرى معتادة وكأنها أمر طبيعي وليس استثنائيا، وأول هذه العوامل هو التخلف، هذه الحقيقة التي لا يريد البعض الاعتراف بها، بدلالة ان تنظيمات الاسلام السياسي التي كانت من أبرز من اتخذ العنف أداة لإدارة الصراعات اعتمدت على عناصر متخلفة لا تتوافر على حصيلة علمية او ثقافية او حضارية، وهي عناصر موجودة في المناطق الفقيرة والمهمشة والنائية والتي لا تحظى باهتمام المركز، فتحولت هذه المناطق الى حواضن مناسبة لانتشار عقائد تلك التنظيمات وأيديولوجياتها المتطرفة.
ونوجز كلامنا بالقول: لا يمكن للمتنورين ان يكونوا مجرمين، أو أداة بيد الغرباء، او بلا روح وطنية، ولكن كيف للتنوير أن يأخذ مداه مع أنظمة سياسية أهملت التعليم وتماهت مع رؤى متخلفة أقرب الى حياة الكهوف منها الى الحياة المعاصرة. أما العامل الثاني فيتمثل في السلطات الغاشمة التي جثمت على صدور العراقيين على مدى عقود وحولت حياتهم الى جحيم، فنحن ضحايا السياسة أمواتا وأحياء، وهذا ما أدركه الشباب المتظاهر بمقارنة حياتهم بحياة الشعوب من حولنا، ولذلك ليس أمنا سوى الصراخ بصوت واحد: أن اصلاح الخراب مدخله اصلاح السلطة.
اضف تعليق