شريحة الشباب التي من المعروف أنها دائماً داينمو الحراك المطلبي، وايضاً الثورات الكبيرة، واحياناً يكون وقع الردّة والموقف المضاد على هذا الحراك، أمضّ من وقع الجور والاضطهاد من الحكام الفاسدين، كون الشباب وجماهير الشعب قدمت تضحيات ودماء من اجل تغيير الواقع السيئ...
مشاعر الفخر والعزّة تغمر الشعوب المنتصرة على قوى الظلم والطغيان، ومشاعر الارتياح تطفو على محيا افراد المجتمع وهم يتحسسون الفارق بين الواقع السيئ البائد، والواقع الجديد، حيث يجدون فيه أنفسهم، بكل ما مكنوناتها من إرادة وعزيمة وقدرة على التفكير والتقرير وصناعة المستقبل.
هذا ما سجله التاريخ عن الشعوب والأمم الماضية، ويسجله عن الشعوب في التاريخ المعاصر، كيف ان مجرد شعورها بالغلبة على من يتحكم بأنفاسها ومصيرها يعيد اليها الثقة بالنفس، بل والحياة باكملها، هذه المشاعر الجيّاشة ربما تسبب في تغييب استحقاق أهم من الانتصار نفسه، وهو التفكير بانتصارات في مواقع متقدمة أخرى، فضلاً عن الحفاظ على هذا النصر وعدم تحوله الى هزيمة او مناسبة لولادة مشاكل وأزمات داخلية.
أي حراك جماهيري في العالم، ليس فقط يمثل نشاطاً سياسياً لحل مشكلة الاستبداد السياسي والاستئثار بالقدرات والامكانات، وإنما يعكس أزمة نفسية داخلية لدى افراد الجماهير ناشئة من السلوك السياسي السيئ والتعامل الفرعوني –ما أريكم إلا ما أرى- الامر الذي يجعل كل ما يتعلق بهذا الوجود السيئ والكريه، مصدر شؤم لابد من التصدّي له بكل قوة، بما فيه "النظام" بمعناه العام، كون الجماهير الغاضبة والطامحة للتغيير او الإصلاح ترى في هذا النظام عكازاً يقف عليه الساسة المفسدون والفاشلون.
ولذا نجد في معظم الثورات الجماهيرية في العالم ظهور جماعات تتولى إدارة شؤون المجتمع بعيداً عن مؤسسات الدولة والنظام السياسي الحاكم، بدعوى أنها من "رحم المجتمع"، فهي التي تنظم السير في الشوارع، وتحفظ الأمن والسلم الاجتماعي، وتراقب حركة السوق، وملف الخدمات، وحتى تتدخل في مسألة القضاء، كما شهدنا في بعض الحالات ظهور "محاكم شرعية" تنفذ أحكاماً مختلفة منها؛ الاعدام بحق من تراهم مستحقون لهذه العقوبة القاسية.
هذا ما يتعلق بالجوانب العملية على ارض الواقع، والامر ينسحب ايضاً على الجوانب الفكرية والمعنوية، عندما يرى البعض ضرورة إعادة النظر في المتبنيات والافكار والعقائد، فالتقاليد من صنع الاموات، والافكار المطروحة سابقاً لا تنفع لليوم، والعقائد عبارة عن أغلال تقيد حرية التفكير والسلوك، وعليه؛ لابد من البحث عن الجديد، ثم الجديد حتى نعالج مشاكلنا الراهنة، وأول من يتعرض للتهديد من هذا التحول الغريب؛ النسيج الاجتماعي.
حيث نرى الابن يقف أمام أبيه، او البنت أمام أمها، او الاثنين معاً، ويقولان لهما: "الزمان ليس زمانكم، إنما هو زماننا"!،11 أو أن تقتحم طالبة في مدرسة اعدادية غرفة الادارة وتتوجه الى المديرة بأن "إن كنتم جبناء ولا تخرجوا الى الشارع للتظاهر ولا تعطلوا الدوام، فنحن جديرون بذلك..."!.
علماً أن كل مخرجات التحول هذا تعزى الى حاجة الجماهير، بل وانها الاستحقاق الاكبر مهما كانت العواقب والمشاكل الجانبية المحتملة من هذه التحولات، كأن يكون فرض الإضراب على المعلمين والموظفين غلق المدارس والجامعات، او غلق الطرق، أو حتى تشكيل لجان أمنية خاصة، تعتقل أو تخوّن، أو حتى تقوم بتصفيات جسدية.
سؤال أمام الثوار، ما الذي يجعل الثوار أو دعاة الإصلاح لأن تكون لديهم مخرجات من هذا النوع الغريب وهم يؤكدون للناس أنهم الأمناء على حقوقهم وكرامتهم وتطلعاتهم أكثر من الحكام الفاسدين، وحتى من بعض الاحزاب السياسية النفعية.
سؤال محوري موجه بالدرجة الاولى الى هذه الطليعة الثورية علّها تهتدي الى التقويم المفيد لها وللجماهير في آن.
ربما تكون ثمة أسباب وراء هذه الحالة، نسلط الضوء على سببين:
السبب الأول: محورية الذات وحب الأنا الذي عادة ما يصاب به العديد من الثوار والمصلحين في حراكهم؛ سواءً ضد الديكتاتورية كنظام سياسي، او ضد الفساد في النظام السياسي الحاكم، فهم يعبئون الساحة والجماهير ضد الواقع الفاسد بكل ما لديهم من حماس وعزم، بيد أنهم يتوقفون فجأة عند صياغة البديل الأفضل والظهور امام هذه الجماهير بصورة المنقذ الحقيقي الذي يوفر الامن والاستقرار والكرامة وكل ما تفتده.
هذه الحالة النفسية تقود صاحبها من حيث يريد او لا يريد الى نفس الاستبداد والديكتاتورية التي يناضل للقضاء عليها، وهنا تتولد الازدواجية في المعايير، وتغيب القيم الحقيقية، ولعل أبرزها؛ الشورى، ومن مصاديقها اليوم؛ الديمقراطية والمشاركة السياسية.
السبب الثاني: التطرف في الرأي والسلوك الذي يستمد جذوره من العصبية، والصمنية الفكرية والشخصانية، وهو ما حذر منه القرآن الكريم في شرحه لتجارب الأمم والحضارات التي حظيت بمقومات الظهور والسيادة في العالم، ثم ما لبثت أن انكفأت على نفسها وتقهقرت بسبب ما يصفه القرآن الكريم بـ "الحميّة الجاهلية" الصمنية الفكرية والشخصانية، التي افرزتها الصمنية العقدية (الأوثان)، وقد ذمّ القرآن الكريم حضارات أنجزت الكثير في حياتها، مثل الحضارة الفرعونية، والحضارة الفارسية، والحضارات التي ولدت في وادي الرافدين، تركت معالم وآثار قيّمة في جال العلم والمعرفة، بيد أنها انهارت ولم يبق منها شيء اليوم لسبب واحد؛ اصطدامها بالسنن (القوانين) الإلهية في الحياة والاعتقاد بانها هي القادرة على قيادة البشرية الى أبد الآبدين حتى وإن كان عبر الظلم والطغيان وسفك الدماء، بينما الرؤية القرآنية –السماوية تدعو الانسان للانفتاح على آفاق العلم والمعرفة للوصول الى حقائق الحياة والوجود.
ومن المحاججات الرائعة التي يذكرها لنا القرآن الكريم، ما دار بين النبي ابراهيم، عليه السلامن وطاغية زمانه؛ نمرود، تقول الآية الكريمة من سورة البقرة: ((قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)).
إن من يراجع تاريخ الثورات التي أفضت الى تحولات كبرى في العالم، مثل؛ الثورة الفرنسية والثورة الروسية، نجد أن الثوار فكروا في الاطاحة بالظلمة والفاسدين من سكان القصور والطبقة الارستقراطية الجائرة، ولكنهم لم يفكروا برفع مستوى الجماهير التي ناضلت وضحت بدماء غزيرة في هذا الطريق، وأن يستبدلوا الحرمان والتخلف بالتطور والنمو والاكتفاء الذاتي، فضلاً عن حقوق اساسية مثل؛ الحرية والاستقلال والكرامة الانسانية، لذا نجد ان هذه الثورات انتجت التصفيات الدموية المريعة والديكتاتورية بالثوب الجديد، وتحت شعارات براقة.
وفي بلادنا الاسلامية هنالك أمثلة عديدة من التجارب الثورية بإمكان القارئ اللبيب مراجعتها والنظر في مآلاتها وما قدمته للشعوب، فهنالك شعوب انتصرت في ثوراتها ولكنها اليوم تشكو من فقدان ابنائها للعمل المناسب، وللسكن الكريم، والحياة الخالية من القلق والاضطراب، مما يدعو أي حركة إصلاحية أو تغييرية (ثورية) لأن تفكر ألف مرة بالنتائج قبل الاندفاع نحو المواجهة ومعها الجماهير، ولاسيما شريحة الشباب التي من المعروف أنها دائماً داينمو الحراك المطلبي، وايضاً الثورات الكبيرة، واحياناً يكون وقع الردّة والموقف المضاد على هذا الحراك، أمضّ من وقع الجور والاضطهاد من الحكام الفاسدين، كون الشباب وجماهير الشعب قدمت تضحيات ودماء من اجل تغيير الواقع السيئ، ثم يجدوا ان حجم التضحيات اكبر بكثير مما حصلوا عليه، او ربما تكون الصدمة بظهور واقع أسوء وأمرّ مما كان عليه في السابق.
اضف تعليق