من المتوقع أن تستمر الاحتجاجات والاضطرابات لأن استقالة الحكومة وتشكيل حكومة بديلة في ظل ظروف سياسية متشنجة وتدخلات خارجية اعتاد عليها العراق عند تشكيل أي حكومة، وفي ظل نظام سياسي يعمل بمحركات المحاصصة واغتنام المناصب، لن يعمل على تهدئة وطمأنة المحتجين. فمطالب العراقيون الغاضبين تتجسد...
بعد خطبة المرجعية الدينية في النجف الأشرف التي دعت مجلس النواب إلى إعادة النظر بخياراته تجاه الحكومة، سارع رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي إلى تقديم استقالته لمجلس النواب العراقي ووافق الأخير يوم الأحد 1/12/2019 على استقالته وقرر المجلس دعوة رئيس الجمهورية بتكليف رئيس وزراء جديد، في وقت أعلن تحالف سائرون تنازله عن ترشيح شخصية لهذا الموقع، وجاءت هذه الاستقالة وسط احتجاجات متواصلة ومطالبة بإصلاح شامل وتغيير جوهري في العملية السياسية، مما يمهد الطريق لأزمة سياسية جديدة!.
ورغم قيام الحكومة والبرلمان بمحاولة معالجة مطالب المتظاهرين، لكن هذه المعالجات السطحية دفعت بهم إلى زيادة سقف المطالب بتغيير النظام السياسي ورحيل الطبقة السياسية عن السلطة ومحاكمتها، بعد أن كانت المطالبات تدور حول تشريع قانون انتخابات جديد عادل وقانون لمفوضية انتخابات جديدة، لوضع حد لترتيبات تقاسم السلطة الذي يوزع مزايا ومناصب الحكومة بين الكتل السياسية وفق إطار المحاصصة.
إن الحركة الاحتجاجية، التي يبلغ عمرها شهرين، شكلت أخطر تحدي للنظام السياسي العراقي منذ عام ٢٠٠٣. خاصة بعد استشهاد أكثر من ٤٣٠ وجرح الآلاف من المتظاهرين. استقالة رئيس الوزراء العراقي لم تهدئ الشارع المحتج فبعد الإعلان عن استقالته تظاهر العديد من العراقيين في الشوارع وأغلقوا الطرق مرة أخرى في العاصمة بغداد وفي جنوب البلاد.
حكومة عبد المهدي بعد مرور أكثر من سنة شهدت فيها مشاحنات واحتقانات سياسية لم تعمل على حل مشكلات العراقيين بعد أن سأم العراقيون من ارتفاع معدلات البطالة والفساد والكسب غير المشروع على نطاق واسع ونقص الخدمات الحكومية، رغم القدرات الإنتاجية العالية والاحتياطيات النفطية الهائلة، مما يؤكد تبديد ثروات البلاد من قبل الطبقة الحاكمة.
من المتوقع أن تستمر الاحتجاجات والاضطرابات لأن استقالة الحكومة وتشكيل حكومة بديلة في ظل ظروف سياسية متشنجة وتدخلات خارجية اعتاد عليها العراق عند تشكيل أي حكومة، وفي ظل نظام سياسي يعمل بمحركات المحاصصة واغتنام المناصب، لن يعمل على تهدئة وطمأنة المحتجين. فمطالب العراقيون الغاضبين تتجسد بإعادة بناء نظام سياسي جديد لن يكون قائما على الانتماءات الطائفية والعرقية، فالتجديد يجب أن يشمل كل الطبقة السياسية لاسيما أن هذه الطبقة لن تقدم شيء يذكر على مستوى بناء الدولة وتحسين ظروف المعيشة خلال ستة عشر عاما من الحكم.
لكن من جانب آخر، تمثل استقالة الحكومة واستمرار ضغط الشارع المحتج ورفضه للتدخلات الخارجية فرصة للقوى السياسية الحاكمة للبدء في إحداث تغيير حقيقي. إذ يملك العراق الآن فرصة تاريخية لتشكيل حكومة قوية وخالية من التدخل الخارجي.
لكن مالا يخفى أن البرلمان يتألف من كتل سياسية متنافسة، لا يملك أي منها أغلبية واضحة ولا توجد مشتركات سياسية حتى في مواجهة أزمة الاحتجاجات وإداراتها، ولهذا من غير المرجح أن يوافق قادة الكتل على بديل خلال 15 يوما فقط وقد انتهى منها عدة أيام، ومن غير المرجح حتى في حال تكليف شخصية لرئاسة الحكومة من قبل رئيس الجمهورية أن يتم منح الثقة لأعضاء حكومته التي يعرضها خلال 30 يوما بعد التكليف.
ما يحصل الآن أن الكتل السياسية تعلن أنها لا ترغب بترشيح أحدا لمنصب رئيس الوزراء لكنها في القنوات الخلفية ستسعى لتمرير تفضيلاتها عند الرئيس العراقي وأيضا في حال لو اتفقوا على شخص رئيس الحكومة، فأن الكتل لن تتوانى من دس مرشحيها في كابينته، لأنها بالنهاية من يصوت على منحها الثقة. إذ لازالت بعض الكتل السياسية تراهن على البقاء والحصول على المكاسب عبر الاستحواذ على المشاريع والعقود والأموال التي توفرها المناصب، ولازالت بعضها لم تستوفي أثمان دعايتها الانتخابية أو تعيد لبعض الجهات أثمان شراء بعض المناصب الوزارية وغيرها، ولهذا ستناضل وتقاتل لمسايرة الاحتجاجات وركوب الموجة من جانب، وتحقيق المكاسب بشكل غير مباشر من جانب آخر.
ومن خلال تشريع قانون انتخابات جديد وآخر لمفوضية الانتخابات، يمكن تحديد توجهات القوى السياسية تجاه الإصلاح، فإذا عمدت إلى وضع نظام انتخابي عادل يعمل على إلغاء التمثيل النسبي وتثبيت خيار الفائز الأول بأعلى الأصوات ما يعزز ضمانات وصول القوائم الفردية والمستقلين، وإذا ما شرعت ترسيخ استقلالية المفوضية عبر دخول القضاة والقطاعات الأكاديمية والنقابية لمجلس المفوضين فإنها تثبت حسن نيتها بالتغيير والإصلاح وتعطي مقدمات لرحيلها عن المشهد السياسي، خاصة إذا ما حل مجلس النواب نفسه وفق الدستور ودعا إلى انتخابات نيابية مبكرة لن يشارك فيها غالبية أطراف العملية السياسية السابقة والحالية، أما إذا لم تتبنى هذه الخيارات فالعودة إلى المربع الأول سيكون هو الفيصل: احتجاجات مفتوحة وصدامات ودماء في معركة بين متظاهرون لن يغادروا ساحات الاعتصام وطبقة سياسية لن تغادر ولن تنجز الإصلاح.
ولهذا لابد على قادة الكتل السياسية وزعماءها أن يلتفتوا إلى حجم الخطر الذي يمر به العراق الذي أنجب جيلا أنهكته الأزمات، وافترسته الطائفية والفساد والخراب، وأن ينتهزوا فرصة تشكيل عراق جديد، فلم يعد الرهان على فكرة خنوع ويأس العِراقيين والقبول بواقع الحال وعدم المطالبة بالتغيير، مبررا للتمادي بالفساد، فمشهد إصرار المتظاهرين رغم الدماء ألغى هذا الانطباع تماما.
وأمامهم ما يلي:
1- العمل على إنجاز ملحق إضافي للدستور، يتضمن مجموعة من القواعد الدستورية وفقا لقواعد تعديل الدستور النافذ بموجب المادة ١٤٢ منه تراعي ما جاء في المادة ١٢٦، يعالج كل الارتباكات والغموض للمواد القابلة للتأويل ويعمل على اجتراح مرحلة سياسية جديدة تتضمن احتواء مطالب المتظاهرين من حيث شكل النظام السياسي ومخرجاته بشكل كامل وعرض هذا الملحق على الاستفتاء.
2- تشكيل حكومة جديدة ضمن سقف الدستور الحالي تتولى بالتعاون مع مجلس النواب الإسراع بإنجاز قانون الموازنة المالية للسنة القادمة يراعى فيه مظالم ومطالب المتظاهرين ويحيد امتيازات الطبقة السياسية، واستكمال قانون الانتخابات والمفوضية، والعمل على حسم ملفات الفساد بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى والإدعاء العام وهيئة النزاهة.
3- العمل على حل مجلس النواب وفقا للمادة ٦٤ من الدستور ويتم إجراء انتخابات نيابية عامة نزيهة بأسرع وقت يضمن فيها عدم اشتراك غالبية القوى السياسية الحالية والسابقة وخصوصا من تدور حولها شبهات الفساد وضعف الأداء الإنجازي.
4- تشكيل حكومة وطنية من ذوي الكفاءات والمستقلين لإدارة البلد والنهوض به بعيدا عن منطق التدخلات الخارجية، وتعمل على إعادة الاعتبار للمواطن ومنحه الأولوية، وأيضا إستعادة دور العراق الفاعل إقليميا ودوليا، عبر سياسة خارجية متعددة المسارات خاضعة للرقابة تعمل على تثبيت توازن علاقات العراق بمحيطه الخارجي.
5- إعادة مأسسة الدولة وقوانينها وحصر السلاح بيدها وإنفاذ القانون على الجميع. والاستثمار الأمثل لقطاع النفط والطاقة والزراعة والصناعة والسياحة والموقع الجغرافي. مع توزيع عادل للثروات على الجميع، والعمل على تقديم الخدمات وإنجاز البنى التحتية.
اضف تعليق