يرى كثيرون ان الثقافة نوع من الترف، مع انها هي التي تحدد اهدافنا وتتحكم بسلوكنا، فاختلاف سلوك أحدنا عن الآخر يعود الى الثقافة، بل انها هي السبب في ان تجد جماعة تنشر المحبة والسلام وأخرى دعاة حروب، وفي العراق كانت الثقافة أحد أهم أسباب العنف...
بدءا لنصحح فكرتين: الأولى، اننا حين نقول مثقفا فان الذهن ينصرف الى انه اديب، شاعر، فنان، او اعلامي وهذا ليس صحيحا، فالطبيب مثقف ورجل الدين مثقف وكل من يعمل في مجالات المعرفة، من العلوم التكنلوجية الى العلوم الإنسانية هم مثقفون.
والثانية، يرى كثيرون ان الثقافة نوع من الترف، مع انها هي التي تحدد اهدافنا وتتحكم بسلوكنا، فاختلاف سلوك احدنا عن الآخر يعود الى الثقافة، بل انها هي السبب في ان تجد جماعة تنشر المحبة والسلام وأخرى دعاة حروب.
وفي العراق كانت الثقافة أحد أهم أسباب العنف، آخرها وأعنفها ما جرى بين عامي (2006-2008) الذي اصطلح على تسميته حربا طائفية او اهلية فيما المفهوم العلمي انها كانت حرب معتقدات والمعتقدات أفكار والأفكار ثقافة. ولأننا نختلف في ثقافتنا، ولأنها تكون السبب فيما ذكرنا، فلهذا ضمنت الأمم المتحدة في اعلانها الخاص بحقوق الانسان الصادر عام(1984) الحق لكل شخص في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية ويستفيد من العلوم ويستمتع بالفنون، ويحترم ثقافة الآخر.
تلك مقدمة الهدف منها ان نحمل فهما مشتركا بخصوص الثقافة، لننتقل الى ما هو اهم، حال المثقف في العراق ونحن نحتفي به ونحتفل بيومه.
منذ العام 2003 واجه المثقفون العراقيون ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال فتوزعوا بين من غادر الوطن، ومن انساق وراء مغريات السلطة، وبين من وجد ان ثقافة المّلا والعرّاف والدجل والجهل قد شاعت واعتبرت المثقف الحقيقي كافرا او زنديقا فاعتكف، وبين قلّة ظلت ماسكة بالقلم بشجاعة محارب.
وكنت تابعت حال الثقافة والمثقفين فوجدت ان اغلبها تشيع الاحباط، ففي استطلاع اجريناه في العام 2017 وصف المثقفون العراقيين بأنهم: (شعب سلبي رافض لكل فعل باتجاه خلاصة، تغيير الحال بالعراق، حلم ابليس بالجنة، ماذا تسمي شعبا يعيد انتخاب من افرغ ميزانية الدولة وصرفها على اسرته واقربائه، واشترى الفلل في عواصم الدنيا وترك شعبه جائعا؟،واذا تقول لمثقفين هرولوا الى من فشل في ادارة الحكم وباع ثلث العراق ليجمّلوا صورته فيعود حاكما من جديد؟).
وفي العام 2018عاش العراقيون اهم حدث هو الانتخابات فاجرينا استطلاعا ايضا شمل مثقفين توزعوا على ثلاثة اصناف: الاول يائس تماما بقولهم: (التاريخ القريب والبعيد يؤكد، نفس الطاس ونفس الحمام)، وان (الشعب مغيب وعيه، مخدّر، مسّير، مغفّل، جاهل)، والثاني قال ان قانون الانتخابات (فصلته الاحزاب الدينية على مقاساتها)، وأن القوائم الجديدة والمرشحين النزيهين عليها أن (تمسح ايدها بالحايط)، والثالث كان على يقين بان نسبة التغيير سوف لا تتعدى الـ ( 1%).
وحصل ما فاجأ المثقفين بما لا يخطر على بال اذكاهم، يوم شهد العراق في الفاتح من تشرين الأول/اكتوبر 2019 تظاهرات لخمسة ايام هزّت محافظات الوسط والجنوب، تبعتها في الخامس والعشرين تظاهرات اضخم اضطرت الحكومة الى استخدام العنف المفرط بما فيه الرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل، تصاعدت في جمعتي الفاتح من تشرين الثاني /نوفمبر والثامن منه الى حرب جسور وشوارع في بغداد.
ووصلت في خميس الدم (أمس 28 تشرين ثاني2019) الى استشهاد(32) شابا في الناصرية فقط، في مشاهد وكأن الذي يجري هو حرب ضد غزاة وليس تظاهرات قام بها شباب دفعهم الفقر والحرمان والشعور بالاغتراب وعدم وجود معنى من حياة استلبتها منهم احزاب استفردت بالسلطة والثروة لستة عشر عاما، فانفجروا كما البركان رافعين شعار (نازل آخذ حقي) و (نريد وطن).
ولقد عايشت تظاهرات ساحة التحرير خمس ليال، والتقيت بمثقفين، لحضراتكم شهادتين عن دور المثقف في عملية التغيير:
(المؤسف والمستغرب في ثورة تشرين العظيمة غياب المثقف العراقي في ساحات الاحتجاج باستثناء القليل منهم فيما المفروض ان يكونوا في طليعة الصفوف من اجل رفع معنويات وعزيمة الشباب الشجعان، الا انهم مع الاسف فضلوا الجلوس في المقاهي لشرب القهوة والكبشينو وتبادل النكات وكتابة الرسائل الغرامية ويضيف: اكتشفنا في ثورة تشرين ان ابو التكتك اكثر نبلا وشجاعة وشهرة منهم الناشط صبري العقيلي).
ويقول الكاتب والصحافي توفيق التميمي:
(انا بعمري الذي تجاوز خمسة عقود من القهر والكبت والاحباط احضر لهذه التظاهرات بشكل يومي ليس بصفة مشارك بل بصفة تلميذ في مدرسة هؤلاء الشباب الثوار اتعلم معهم كيف يواجهون الرصاص ليصنعوا املا لليائسين امثالي).
وقال ثالث ساخرا من خيمة جواد سليم:(آني ما كاتلني غير هالدستور، الغوه وخلصونه منه..والأحسن نستورد دستور من سويسرا ونخلص..وأضاف: وعيونك دكتور ما راح يصير اي حل).
ولكن الحل صنعته ثقافة جيل من شباب قدموا المئات من الشهداء والآف المصابين، وخطّأت حتى نظريات في علم النفس تقول: اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام، واسقطوها في الخامس والعشرين بيوم جمعة (استعادة وطن)..متحدين الموت بصدور عارية وملاحم اسطورية، و ثورة (تكتك!) لم يشهدها تاريخ العراق السياسي صار اصحابها ايقونة لثقافة انسانية جديدة يصنعها شباب مستلبون مسحوقون ضد ثقافة رصاص حي يستهدفهم وقنابل تحرق عرباتهم بأمر السلطة، لتعيد هذه المشاهد احياء ثقافة الغيرة والهوية الوطنية والقيم الأصيلة والجميلة في الشخصية العراقية.
وما يجري الآن هو صراع ثقافات أيضا، بين عقل سياسي مأزوم، منغلق، مسكون بالماضي يعتبر تحشيد الشباب بمسيرات لطم ونواح، انجازا يتباهون به!،وبين عقل شبابي منفتح، متطلع الى المستقبل بثقافة تنهي ثقافة محاصصة وتشيع ثقافة دولة تمنح الانسان الفرصة لأن يحقق ذاته ويبني وطنا.
والحل يصنعه ايضا المثقفون من المفكرين وحكماء القوم، ومن هنا وبأسمكم وبأسم المثقفين في العراق ندعو كل الأطراف الى حقن دماء العراقيين، ونجدد الدعوة الى ان نكون وسطاء بين السلطة واصحاب القرار وبين المتظاهرين، منطلقين من حقيقة ان ما بعد واحد تشرين/ اكتوبر 2019 لن يكون امتدادا لست عشرة سنة من حكم احزاب استفردت بالسلطة والثروة وافقرت الناس وأحالت الوطن خرابا.
فلدينا مثقفون تبنوا قضية الجماهير وشاركوا في اول تظاهرات الاحتجاج ضد الفساد بساحة التحرير في 25شباط 2011، الى انتفاضة 20 تموز 2018، بينهم من وضع كفنه على راحتي يديه وما تخلى عن قضية شعبه، ومن استشهد في ساحات التحرير، ومن جرى اختطافه، ومن اغتيل.
ان المثقف الحقيقي ليس ذلك الذي يشيع الاحباط والناس في محنة، ولا الذي ينصب مآتم رثاء النفس وجلد الذات بتغريداته وأشعاره في طقوس عزاء ادمن عليها نفسيا، بل هو اشبه بالنبي، يظهر حين تتردى الأخلاق ويشتد ظلم الناس مبشرا بالخلاص عن يقين، ولدينا من هؤلاء الانبياء جمع كبير يتمتع بالجرأة والشجاعة.
تحية لكل مثقف يعمل بفكره على توظيف الحاضر من اجل مستقبل أفضل وأجمل لوطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله برفاهية، تحية اجلال واكبار لشهداء العراق وشهداء انتفاضة تشرين.
اضف تعليق