الجهة الوحيدة التي تشكل هذا الفنار للمتظاهرين؛ المؤسسات الثقافية والمعنيين بالتوعية والتثقيف في المجتمع، من كتاب وأدباء وعلماء وخطباء يكونون في مقدمة التظاهرات معنوياً، وليس بالضرورة مادياً، ويكونوا هم من يصوغ شكل المعارضة في الشارع، ويبينوا للناس ما ينبغي أن يكون لتحقيق الأفضل، والفائدة الأكبر من هذه الخطوة...
يعتقد المتظاهرون في العراق أنهم بلغوا شأواً في معرفة ما يجري حولهم من فساد الطبقة السياسية وما يرتكبونه من ظلم بحقهم ولذا خرجوا الى الشوارع يتظاهرون ويعبرون عن عميق غضبهم من أداء حكومتهم، وفي خطوة متقدمة جديدة؛ من أداء النظام السياسي في العراق برمته، وهو اعتقاد يتضمن جانباً كبيراً من الصحة مع إحاطة العراقيين بفيض من المعلومات والتقارير بفضل تقنية الاتصال السريع والمجاني، حتى بات من العسير على كثير من المفسدين والفاشلين الاختفاء في زاوية مظلمة بعيداً عن أضواء الاعلام، ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه المعرفة بحاجة الى رؤية ثاقبة بعيدة المدى لمختلف أصناف المتظاهرين في الشارع يساعدهم على إصدار الاحكام الصحيحة بخصوص أمور واحداث ومواقف تتعلق بحراكهم المعارض، وبعموم الوضع في العراق، والاهم من هذا؛ المساعدة على تحديد الاتجاه والهدف من وراء التظاهرات في وجود تعدد المطالب، علماً أن الجميع يتفق على التغيير، ولكن؛ أيّ تغيير؟ هل هو النظام الحاكم برمته، كأن يتحول من برلماني (حزبي) الى رئاسي بانتخاب الجماهير؟ أم تغيير القوانين والدستور، أم تغيير الأداء السياسي من العمل وفق المحاصصة، الى اعتماد الكفاءة؟ أم جميع هذه الامور؟!
الجهة الوحيدة التي تشكل هذا الفنار للمتظاهرين؛ المؤسسات الثقافية والمعنيين بالتوعية والتثقيف في المجتمع، من كتاب وأدباء وعلماء وخطباء يكونون في مقدمة التظاهرات معنوياً، وليس بالضرورة مادياً، ويكونوا هم من يصوغ شكل المعارضة في الشارع، ويبينوا للناس ما ينبغي أن يكون لتحقيق الأفضل.
الفائدة الأكبر من هذه الخطوة (المبادرة)؛ تحقيق المعرفة المباشرة بين من ينظّر ويوجه، وجماهير الشعب المنتفض والمتظاهر في الشوارع وجهاً لوجه، أكثر مما تغريه وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما "الفيس" الذي يُفترض أنه يعقد الصلات، وجهاً لوجه، فبعد الغاية الاجتماعية بادئ الأمر، نجد اليوم الصلات السياسية والفكرية هي السائدة في مساحة واسعة من هذه الشبكة.
الى جانب وسائل التواصل الاخرى التي تخلق عالماً افتراضياً، بينما وجود الخطيب أو الاديب او العالم بين الناس في منتديات وملتقيات وفي أماكن أخرى، الى جانب الاستفادة من وسائل التواصل تلك، من شأنه أن يعزز الثقة والعلاقة بين الجانبين، بل وأن يعزز الثقة في نفوس الجماهير بأنهم ذو شأن وقدرة على التغيير الحقيقي، وليسوا وحيدين في الساحة، يرددون الشعارات، ثم يتم احتواءهم وينتهي كل شيء، كما حصل في التجارب الماضية.
إن التغيير الحقيقي في جميع بلدان العالم إنما حظي بالنجاح بفضل كتابات وخطابات المفكرين هنا وهناك، وربما تكون الثورة الفرنسية، والثورة الروسية، وحركات تحرر في بلاد عدّة بالعالم، دليلاً على أن مسيرة الاحتجاج على الواقع الفاسد تحقق اهدافها بوجود الطليعة المثقفة بشعورها العميق بالمسؤولية إزاء جماهيرها ووطنها.
ورب متخوّف يطرح السؤال المعروف: وماذا عن قمع السلطة؟
الجواب: وماذا عن قمع السلطة للمتظاهرين الشباب؟
المفكر او المثقف الذي يعد نفسه ضمير المجتمع، وانه ذو رؤية بعيدة وشمولية، ويفهم الامور أكثر من الآخرين بناءً على سعة علمه ومعارفه وتجاربه، لابد أن يضع كل ذلك على مذبح الحرية والكرامة، فمن الطبيعي ان تستهدف السلطات الحاكمة في الانظمة الفاسدة، من يتحرك لنشر الوعي بين الناس بمختلف الاشكال، سواءً بالتضييق والتهديد، أو بالاعتقال والقتل، او بالتهجير، أو حتى في بعض الاحيان بالاحتواء –حسب الاستجابة- والتغرير لتغيير الموقف.
وهذا هو الاختبار العسير الذي تنتظره الجماهير قبل السلطة الحاكمة، فاذا كان الصمود والاخلاص والتضحية من سمات الشريحة المثقفة، وأنها تتحدث حقاً؛ عن ضمير الناس وانتمائهم وتطلعاتهم، فان الدور سيكون على الجماهير بأن تتحمل مسؤوليتها هي الاخرى في الإصغاء الى التوجيهات بخصوص وسائل التغيير أو الإصلاح، ثم الاهداف والغايات، ولنفترض عدم حصول هذا التفاعل من قبل الجماهير، كما هي التجارب الكثيرة في العالم، فان الفضل ليس في الانتصار دائماً، بقدر ما هو في الآثار العميقة في النفوس، وتسجيل الموقف التاريخي للحاضر والمستقبل.
والقضية ليست مقتصرة على الحدث الراهن في العراق، بل ينسحب على مجمل الحراك المعارض في قادم الأيام واستحقاقات الإصلاح والتغيير من التظاهر والاحتجاج والاعتصام، وغيرها من أشكال التعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق المشروعة، فلابد للحراك الجماهيري من فنار ونظرية تحدد المسير نحو بر الأمان ليتسنّى تحقيق الاهداف مع قدر أقل من الخسائر.
المطالبة باسقاط النظام السياسي الحاكم –النمط- هل ياتي من الشارع أم صناديق الاقتراع والاستفتاء الذي يعد له الاعلام الحر والمؤسسة الثقافية.
البحث عن الممكن في سقف المطالب، إعادة النظر في اسلوب عمل العديد من المؤسسات الثقافية: وسائل اعلام، مراكز دراسات، ومنظمات مجتمع مدني وغيرها ممن عملت على ممالات الحكم في ظروف الاستقرار والصمت الجماهيري وتمكين السلطة من إرضاء الناس ببعض الاجراءات الترقيعية. ربما منها حفظ الامن والاستقرار والبناء، والتنظير لمكافحة الفساد والحديث المسهب عن مفاهيم ديمقراطية.
اضف تعليق